هكذا تبدو العلاقة بين الإنسان والخوف الوجودي، إنها رحلة مستدامة تبحث عن وعي بأهمية أن نكون خارج دائرة الرعب الوجودي، ولا يتوفر ذلك الإكسير إلا بحضور الوعي، حضوراً قوياً راسخاً مزدهراً بإرادة تعززها معارف عن معنى الخوف ومخالبه وإشكالياته المزمنة، وإرهاصات الليل والنهار، عندما يتحكم هذا العدو الشرس، بمهجة ووجهة الإنسان، وهو ذاهب إلى الحياة بخفي حنين.
اليوم حروب تدور رحاها بين دول وشعوب ومعارك طاحنة تحرق الأخضر واليابس، وضحايا يذهبون سدى، وثروات ومظاهر حضارية تغيب فجأة، وثقافة تتعثر بحفر سوداء حالكة، وقيم تذوب في حمى الصراعات، وأشواق تتلاشى في غياهب المجهول، وعيون تغطس في بحار هائجة، ونفوس تنفلت كأنها حمير الوحش الهاربة من الضواري، وقلوب تتفجر لوعة وأسى، كل ذلك يحدث في القرن الحادي والعشرين لمجرد فقط وهم الخوف الوجودي، ولأن الوعي الحضاري في قرن التحولات التكنولوجية لم يزل يغط في أوحال قرون ما قبل الحضارة، لأن هذا الوعي لم يزل يحتفظ بكمية هائلة من ملوثات البيئة الفكرية، ولم يزل العقل الباطن يقطن في منطقة ما قبل عصور التنوير. بل إن هذا العقل لا يزال يسكن في بيت العتمة المعرفية، والأشباح العقلية تتمسك بالوهم، الأمر الذي جعل التكنولوجيا الحديثة أكثر خطورة على الإنسانية، لأنها أصبحت بأيدي بشر ما زالوا يعيشون المراحل المبكرة لنشوء الإنسان العاقل، وهذا في حد ذاته يؤلب المشاعر، ويكون حلقة مفرغة، تسمى الوهم الوجودي، بمعنى أن من يريد أن يقضي على الآخر، يدعي أن حربه على الآخر هي حرب وجودية، وهذا في الحقيقة ليس إلا خدعاً بصرية، وحيلاً واحتيالاً على الواقع الإنساني، وستستمر مثل هذه الأراجيح تشتط، وتغلظ حبالها، وتستدير على الأعناق طالما الإنسان لم يزل يقبع تحت سطوة تلك الهواجس المتوحشة والأفكار الشيطانية التي ستدوس بأطراف متنازعاتها أرواح البشر الذين سيظلون يعيشون من أجل البقاء، وليس من أجل الحياة.
الخوف الوجودي ليس إلا وهماً اصطنعه الإنسان المتوحش ضد أخيه الإنسان، وإلا فإن الأرض تسع الجميع، وخيراتها تفيض عن الحاجة فيما لو اقتنع الإنسان بأنه وأخاه الإنسان شريكان في تعمير الأرض وليس في خرابها، وأن الحروب ليست إلا أداة تدمير، ووسيلة عدمية مفزعة. وما يحدث في أطراف العالم ووسطه وجنوبه وشرقه وشماله وغربه هو مثال على عدوانية الإنسان وقدرته الفائقة على صناعة الكذب، والاصطفاف ناحية الخدع البصرية، ورغم التطور الهائل الذي شهده العقل البشري، فما زالت آلة العقل الباطن مسكونة بأوهام الوجود المفقود، وأشباح الماضي التي كانت تسيطر على المصير البشري، كون العقل كان ولم يزل في مرحلته الطفولية.