من الأشياء التي لا أشبع من تكرار تجربتها الرحلات البحرية الجماعية، حيث تحوم بك تلك السفن التي تشبه القرى المتنقلة، والتي عادة تحمل أسماء مثل عرائس البحر أو نجوم السماء أو مثل سفينتنا هذا العام «همس ريح البحار» التي ستبحر بنا من برشلونة مروراً بمدن فرنسية وجزر إسبانية ومدن إيطالية، رحلات «الكروز» تظل متعة كل صيف، غير أن هناك رحلة طويلة وجميلة ومؤجلة، تلك التي تطوف بك مدن العالم خلال شهرين وأكثر، والتي سأكافئ بها نفسي بعد تقاعدي مثل شأن الأميركيين، وكبار الموظفين في أوروبا.
خلال رحلة هذا الصيف كانت هناك مدينة كنت أضمر زيارتها منذ وقت طويل، لكنها كانت تعاندني في زياراتي الكثيرة إلى إيطاليا، هذه المدينة هي «بومبي» تلك المدينة التاريخية التي شهدت مرة قيامتها، لتعود من رماد العدم، ودخان بركان «فيزوف» بعد 1700 عام من الدفان والنسيان وطي ورقة التاريخ عنها، فقويت بالإنسان الذي ظل يبني ويعمر فيها منذ القرن الثامن عشر للميلاد.
يمكنك أن تزور هذه المدينة التّي ما زالت تتوهج بأنفاس النار والدخان وذلك اللون الرمادي الذي صبغها في حريقها الأول عام 79 للميلاد، وما اكتشف فيها مؤخراً من جثث ما زالت في رقدتها الأولى قبل ألفي عام متجمدة محترقة كأصنام نحتت من الرماد والحجر البازلتي، يمكن أن تزورها في أي وقت غير تاريخ ووقت حريقها في الرابع والعشرين من أغسطس أو مثلما زرتها في عز الصيف، فكانت مثل الشعيل والوهيج والاحتراق، وما ينزّ من الأرض من بقايا غازات وأدخنة ساكنة، ووسط شمس متعامدة على رؤوس العباد.
«بومبي» الذي رست سفينتنا «همس ريح البحار» في الميناء القريب منها «نابولي» شهدت في 24 أغسطس عام 79 بعد الميلاد، غضب بركان «فيزوف»، الذي يمكن مشاهدته من على قمة جبل قريب منها، فقذف بحممه النيرانية وأحجاره ونفث الغازات السامة مما أدى لدفن المدينة بمن فيها من أحياء، وحولها إلى خراب يسوده الصمت والرماد، واندفنت المدينة كلها في قبر جماعي كبير، وسويت الأرض وكأن لم تكن فيها تلك المدينة، أو عرفت التطور وحياتها الباذخة، وجورها وظلمها للإنسان، وظهور القتل وسفك الدماء، والجهر بالعصيان والفساد، فكان العقاب الرباني، كما تقول الأساطير أو تتكرر قصص المدن الفاجرة على مر التاريخ الإنساني، وبتغير أمكنتها، ونوعية عقابها. 
بقيت مدينة «بومبي Pompeii» مدفونة تحت الرماد طوال 1700 عام، حتى عام 1748م، حينما كان بعض العمال يحفرون بئراً هناك، فظهر بعض من أجزاء تلك المدينة المدفونة في الرماد، ومن يومها ظلت البعثات تنقب وتحفر لتكتشف كل يوم شيئاً جديداً، وسراً مخفيّاً من تلك المدينة الرومانية، اليوم تعد من أهم المواقع الأثرية والتاريخية في العالم، وأهم وجهة سياحية تحظى باهتمام خاص من منظمة اليونسكو.
هناك رهبة قد يشعر بها الزائر حين دخوله تلك المدينة، خاصة حين يشيرون له إلى موقع بركان «فيزوف» الذي ما زال غاضباً، ويثور بدرجات، وسكانها في الغالب لا يشعرونك بانتمائهم للمكان، فالجميع هنا آتون من بقاع إيطاليا للانتفاع السياحي، لأن هذه المدينة «شبه الملعونة» في الذاكرة التاريخية لا تستوعبها العقلية «الكاثوليكية» المتدينة للإيطاليين التي تبقى حذرة من اللعنات الغيبية، مدينة «بومبي» تستحق الزيارة، مثل بعض مدن العالم، ولمرّة واحدة فقط، ليبرد شغفك، وعطش جوفك، ولتقول لعينيك: لقد أبصرتما تلك المدينة التي ظلت مثل حجر الرحى على الصدر حتى وطئت قدماك أرضها خليط الحرائق والرماد.. وغداً نكمل.