بعد حرب شعواء خاضتها البشرية ضد الكراهية، وبعد قرنين من بزوغ فجر الإنسانية المتنورة، يحصد الإنسان في القرن الواحد والعشرين دماء أكثر، ودماراً أكثر، وطحناً لمنتجات الطبيعة أكثر. لماذا؟
هذه قصة العقل اللاواعي الذي لم يخرج من حيله، وظل خامداً منفعلاً في جوف الجمجمة العظمية يتفاعل مع مجريات الحياة بحيل دفاعية تسوم الإنسان سوء العذاب، ورغم كل المحاولات للخروج من جحيم الكراهية، إلا أن هذه الكراهية أصبحت تتورم مثل دمل في جسد مريض، مثل قيح ينزف من جرح عتيق، ولا شيء تغير في طبيعة الإنسان لأن هذا الإنسان لم يزل يمضغ لبان تاريخه القديم، لم يزل يحرق بخور الماضي على فحمة الاكتواء الداخلي، ولم يزل يستدعي المشاعر المختزنة، كلما واجه الحقيقة المرة، وهي صدامه مع أخيه الإنسان، ولا جدوى من كل التنظيرات، وكل النظريات، وكل المعتقدات، وكل المحاولات للخروج إلى العالم بيد نظيفة خالية من أي سوء، لماذا؟
لأن الإنسان غير كل شيء في حياته، وعدا العقل اللاواعي، والذي هو سر الفجيعة البشرية، هذا العقل الذي لم يزل يحتفظ بغلظته، وعنجهيته، وفظاظته، وكذبه، ومماطلته على الواقع.
العقل اللاواعي يقول لك دعني أقُدْ العربة وسوف أحملك إلى بر الأمان، وسوف تجد هناك جنتك الخالدة، وما تسلمه الراية، حتى تبرز جبلة هذا العقل، وتتحول الأحلام إلى كوابيس، وجهنم الحمراء تكوي، وتشوي، ولا يحميك شيء من عدوانية العقل، طالما أيقنت أنك به وبعونه تستطيع أن تحول الحياة إلى بستان وجنان خضراء. ما الحل؟ هل ندع الأمور تسير على عواهنها؟
بالطبع لا، لأن الإنسان لديه إمكانيات خارقة في تفادي الخطر، ولديه قوة مذهلة لتلافي كل ما يفعله المليح (العقل)، الإنسان كائن مزدوج الوجه واللسان وكذلك الإرادة، وبإمكانه الخروج من قفص الكذب العقلي، إلى فضاء الرحابة النفسية، بإمكانه أن يتحكم في العقل، ولا يدعه يمسك بزمام أموره، فقط بالوعي، وعندما يعي الإنسان وعياً حقيقياً، وعندما تستنير الطاسة الداخلية، يستطيع أن يحول العقل إلى منارة حقيقية، وإلى قوة ضاربة تحميه من سوءات الحقد، ويصبح في العالم زهرة اللوتس التي تخرج من باطن النفايات لتجعل الحياة رائعة، وعندما يتمكن الإنسان من السيطرة على العقل بالوعي، يكون قد أدحض نظرية توماس هوبز القائل (الإنسان ذئب لأخيه الإنسان)، حيث يصبح الإنسان يداً حانية تضم الآخر بحب وشفافية، وتصير الحياة نهراً تسبح في مائه، طيور المحبة، تصير الحياة، شجرة وارفة تحمي العصافير من الضياع في خضم العاصفة.
الوعي يقودنا إلى كبح جماح العقل اللاواعي، وإنارة طرق الحياة بمصابيح المحبة.. المحبة وحدها التي تعمر الأرض، وتضيء السماء.