لعل بعضكم حاول أن يصنع مشهداً لأول فقير على الأرض، ومشهداً لآخر فقير يمكن أن يودع الفقر على البسيطة، في المدن وشوارعها هناك وجوه دقّها الفقر حد العظم، وجوه تقبض عليك وعلى ذاكرتك، وجوه استثنائية يصعب عليك أن تشيح بوجهك عنها، لأنها في داخلها تحمل قصصاً، وخلف حياتها هناك روايات، وما وصلت لهذا الذي هي فيه إلا بقرار من النفس، سيماء هؤلاء الناس عدم المبالاة، وهذا قرارهم الأول بعد اختيار الاختيار، وأن لا شيء في هذه الدنيا يمكن أن يخسر لأجله، لذا فهم لا يكترثون لتصرفاتهم أو حكم الناس عليهم، لأنهم مصنفون، إما دراويش أو شحاذين أو مجانين أو صعاليك، وإما سكّيرين أو مساكين بحاجة إلى الصدقة والشفقة، لكنهم في دواخلهم مختلفون، وينظرون إلى عمق أنفسهم أنهم أحرار، وانحازوا لحريتهم المطلقة بقرار شجاع.
التقيت الكثير منهم في مدن الله الكثيرة، بعضهم يهجم عليك ليحاورك، بعضهم يتجنبون الملاقاة، بعضهم الآخر صامتون، ويجبرك الواحد منهم أن تتقرب منه لتسرق منه ضحكة، قليل منهم العنيف ومن يضمر شراً، لكن في لحظة يمكن أن ينقلب حالهم إنْ شعروا بمهانة أو محاولة فرض أمر عليهم أو المس بحريتهم المطلقة، تجد منهم السياسي المنهزم والمخذول أيديولوجياً، أو من شعر بعدم جدوى الأشياء بعد أن رماه رفاق السلاح القدامى، متحججين بنظرية أن الثورة تأكل أبناءها، بعضهم قارئ متعمق، ويكره الاستعراض إلا إذا شعر أن الإنسان المقابل صنوه، ويمكن أن يكسب معرفة مختلفة منه، فيهم مبدعون من أنصاف المواهب، قتلتهم الموهبة الناقصة، واستسلموا لها، رأيت ممن رأيت أحد فقراء المدن ومثقفيها في سوق «ألمآتا» في كازاخستان، أوقفني ربما لأنني أبدو غريباً بتلك البدلة الكتانية البيضاء الصيفية وقبعة «الجاز» الأقرب للمافيا الإيطالية، وتلك الكاميرا، فرطن عليّ بالروسية، فوقفت متخشباً لهيبة تلك اللغة التي لا تعرف الضار من كلماتها من النافع، فتدخلت المرافقة السياحية والمترجمة، تريد صرفه، لكنه سحرها بكلامه، وظلت تترجم، وبقينا واقفين نستمع له قرابة نصف ساعة في زاوية من السوق، أول هجومه الذي شلّني هو سؤاله: هل أنا مؤمن بما فيه الكفاية؟ لم ينتظر إجابتي، فقد استشفها من صمتي، ودخل في الحديث عن نظريات بعضها أعرفها عن الكون والنشوء والارتقاء، وهل الإنسان قديم أم الحيوان أقدم؟ ومدى هذه العلاقة بين مكونات الطبيعة عبر آلاف السنين، وما النهاية؟ فقلت له لماذا اخترتني من بين كل المارين؟ قال: أحب أن أسمع من الغرباء الذين يبدون منظمين، ولهم بعض الاختلاف الذي أشعر به بالحدس، طلبت من المرافقة إنْ كان بالإمكان تقديم شيء ذي قيمة له.. مأكل وشراب وثمن كتاب يريد أن يشتريه، ضحك وأومأ بيده مودعاً حتى غيَّبته عن عيني زحمة السوق، فوقفت لبرهة أريد إعادة توازني لأمشي من كلامه العميق باتجاه النفس!
ومرة أوصلني سائق أجرة تونسي من فندق أفريقيا إلى مطار قرطاج، ولأول مرة أشعر أن الطريق للمطار ممتعٌ ومسلٍّ، وخالٍ من مراجعة الحسابات، وبعيداً عن تحفزات المطار، أذهلني بقراءته وغزير معرفته، ولم أكن أريد أن أسأله عن تحصيله العلمي، لأنه فوق كل التصنيفات الأكاديمية، مثقف بامتياز، وبقيت في دردشته كاملة الدسم، وحين أوصلني إلى بوابة المطار، شعرت أنني سأفارق صديقاً عزيزاً أعرفه منذ زمن، فأخرجت من جيبي رزمة مما بقي من الدينار التونسي، ومن قلبٍ صافٍ، لكنه رفض، واحمرَّ وجهه خجلاً، وقال: المعرفة والتعارف لا يقدران بالدينار، لكن أمنيتي أن ترسل لي كتبك، هذا هو أجري الحقيقي، فدخلت البوابة مسرعاً، لكي لا يرى تلك العبرة، ولأنني لا أحب أن أودع أصدقائي.