إن كان الفقر ليس عيباً، فالغنى ليس كله شر، بل خير كثير، تلك الموازنة في الحياة، والتي قلما يقبل بها هذا الثنائي «الفقير والغني» الذي عاش في صراع على مر الزمان وتغير المكان، غير أن مشهد الغني في الحياة يحظى بمعجبيه، ومشهد الفقير يحظى بالمتعاطفين معه أو المتغاضين عن وجوده، لكن ومن خلال التجوال في مدن الله الكثيرة تجد عباد الله الكثيرين، منهم الغني ومنهم الفقير، فلا تملك إلا أن تنصاع لحاستك الإنسانية، فتقف حيث يكون الصدق والشرف، حيث كان الغني على اليمين أو الفقير على اليسار.
لكن من باب التعاطف لا التفضيل تشدني المشاهد الإنسانية، والتي أتوقف عندها في المدن أو تجبرني هي على التوقف، مشهد الفقير، والمعدم، والمسكين والدرويش، والمعوز، ومجنون الحارة، وسكير الحي، هؤلاء جميعهم يجمعهم الفقر، وقصص الحياة، حيث اختلطت دموع الليل والستر بحر الفؤاد وتنهدات الصدر، وأتساءل عن أول فقير ظهر على هذه البسيطة، وما هي مواصفات آخر فقير عليها؟ مسألة الفقر نسبية، وتختلف من مكان ومن زمان، لكن هل الأصل في الأمور والأشياء هي الفقر، والغنى أمر لاحق؟ ربما، والإنسان وحده يدّب على تلك الأرض اللينة في أول خطواته التي يرى فيها أثره، كانت يومها المعادلة متساوية بين الفقر والغنى، فقير للوحدة، وقلة الإمكانات، فقير للتجربة، وفي الوقت نفسه غني، فكل الأرض مشاع له، وكل الأمور طوع يديه، والأرض رحبة له، ولا محدودية للتملك، متى بدأ خط الفقر، وخط الغنى يظهر، أول ما ظهر حينما عرف الإنسان الأنانية، والغيرة والحسد، وعرف حب التملك، وعرف كيف يقتل، بعدها من كان يملك قطيع ماشية، كان غنياً بعرف ذاك الوقت، ثم أصبح من يملك سلاحاً يحارب به ويصطاد به، ولديه كهف هو الغني، ثم جاء زمن، الغني يميز عن الفقير بمقدار ما لديه من القوة والسلطة، والنساء والذرية، ثم اختلفت الأمور بتغير الزمن  فغدا الغني الحقيقي من يملك السحر، وسطوة الدين، وما يبثه في نفوس الناس، من ترغيب أو ترهيب، حتى استأثر بمأمورية الحاكم بأمر الله، ثم تطور الإنسان في بعض الحضارات فصار الغني، من لديه المعرفة والحكمة، والفقير هو الجاهل، من هنا انقلبت الموازين من جديد فصار الغنى المادي والغنى المعنوي، لكن اكتشاف المعادن، والتخلي عن المقايضة، وسك النقود حصر الغنى في المال، والفقر في العدم، وجاء الفلاسفة والأنبياء والمصلحون والمرسلون ليجعلوا موازنة بين من يملك، وبين من لا يملك، بين الخير الذي يؤدي للسعادة، والشر الذي يؤدي للحرب، وجاء فلاسفة متأخرون عدّوا المادة هي أساس الأشياء، وجدلية التاريخ، وفي وقتنا الراهن ظهر ذلك التباين الكبير بين الغني والفقير، بين دول طافحة بالغنى، ودول تحت خط الفقر، لذا الحروب اليوم مستعرة، ولا نُبلاء فرسان، ولا أطهار ينقذون الإنسان والحياة، ويعيدون للأشياء القليل من التوازن.
وأتذكر قصة من التاريخ، حين دخل «مقاتل بن سليمان» على «المنصور»، فقال له المنصور: عِظني يا مقاتل، فقال: أعظُك بما رأيت أم بما سمعت؟ قال: بل بما رأيت.
قال: إن عمر بن عبد العزيز أنجب أحد عشر ولداً، وترك ثمانية عشر ديناراً، كُفّنَ بخمسة دنانير، واشتُريَ له قبر بأربعة دنانير، وَوزّع الباقي على أبنائه.
وهشام بن عبد الملك أنجب أحد عشر ولداً، وكان نصيب كلّ ولد من التركة ألف ألف دينار، والله.. لقد رأيت في يوم واحد أحد أبناء عمر يتصدق بمائة فرس للجهاد، وأحد أبناء هشام يتسول في الأسواق! ونكمل غداً.