اسم الفاتيكان ليس له صلة بأي موروث مسيحي قديم، وتعني لغةً «التنبؤ»، تلك البلدة الصغيرة، والمتداخلة مع قلب روما، لا تفصلها عنها إلا تلك الحديقة الغنّاء الجميلة ذات التخطيط الهندسي البارع، وذاك الميدان الذي يعرفه العالم حين إطلالة البابا أو صلواته أو خطاباته أو أثناء انتخاب بابا جديد بإعلان معرفة الدخان الأبيض من الدخان الرمادي، وكل أبواب الفاتيكان مغلقة بحضور أقطاب الكنائس في العالم.
تعد الفاتيكان من أصغر دول العالم بمساحة لا تصل إلى نصف كيلو متر مربع، تليها إمارة موناكو بمساحة أقل من كيلو مترين مربعين، لكن صيت كل منهما غطى الآفاق، فهما معروفتان للعالم بأسره أكثر من دول أكبر مساحة وسكاناً وموارد طبيعية، وإن كان لكل منهما طريق مختلف، واحد باتجاه الدنيا، والآخر باتجاه الآخرة.
تبدأ قصة الفاتيكان قديماً حين بنى الإمبراطور «كاليجولا» مسرحاً في مكان غير مأهول، وبعيداً عن العمار على هضبة خارج روما حينها وذلك في القرن الأول للميلاد، كان يريد من خلال بنائه ذاك، تقليد مسرح «كالسيوم» روما الكبير، حيث تقام حلبات القتال والصراع بين العبيد والمجالدين والغرباء مع الحيوانات المفترسة الجائعة أو أمام أبطال حقيقيين مدربين، وعادة ما يكون الضحية إنساناً بريئاً أو محكوماً عليه في قضية ما أو من الأسرى الذين يجلبون لروما، لكن «كاليجولا» المهوس كان يومها يجري مسابقات ومباريات، القصد منها التنكيل بالمسيحيين كطائفة دينية غير معترف بها في روما الوثنية حينها، فكانوا ضحايا بأشكال جماعية، إضافة إلى الإعدامات العشوائية بحقهم، فصار ذاك المكان أشبه بمقبرة جماعية، وذلك أثناء ما كان يعرف بالاضطهاد الروماني للمسيحيين، باعتبارهم جماعة محظورة في سائر أراضي الإمبراطورية الرومانية، ومطاردة لكل أنشطتهم وحتى تواجدهم، فكانوا يتعاملون بسرية وخفاء في ممارسة صلواتهم ودعواتهم، فلم تعرف روما أي كنيسة إلا بعد الاعتراف بالمسيحية كواحد من أديان الإمبراطورية، بعدها تم منح شيء من الحقوق لمعتنقيها، ثم تحولت إلى دين الإمبراطورية الرسمي في عهد الإمبراطور «قسطنطين»، الذي كان يقدر المسيحيين، ويجلّ أسقف روما الذي قدم له قصر «لا تران» ليكون مقر البابوية الأول، قبل أن يتحول المقر الرئيسي للبابا في الفاتيكان، في حين أول كنيسة بنيت فيه كانت عام 326م، تكريماً لكافة الشهداء المسيحيين الذين قتلوا في تلك الساحات المعدة للقتل والتنكيل، وكذلك تقديراً للقديس «بطرس» الذي تم صلبه ودفنه في المكان نفسه، بعدها تم تشييد القصور والمباني خاصة خلال عهد البابا «سيماشوس» في القرن الخامس الميلادي، حتى غدت تلك الهضبة أو التل مثل التلال الستة الأخرى المعمورة في روما، والتي تعرف اليوم بأم التلال السبعة.
اليوم.. الفاتيكان لا تكتفي بالاحتفاظ بأسرارها خلال القرون الماضية، وما كانت شاهدة عليه في صراع الحضارات، بل تحتفظ بنوادر المخطوطات والكتب والرسائل السرية التي تخص الشعوب المختلفة والأديان المختلفة، وليست كلها متاحة للمطلع والباحث والمنقب، بعض الأسرار يجب أن تبقى أسراراً لكي لا تتغير بعض الثوابت، وتختل بعض الموازين، وتنقلب بعض المفاهيم، نصيحة للمسافر الذي يدخل روما أن يخلع نعليه، ويدخل الفاتيكان، لعله يجد هدأةً للنفس أو يتكشف له سر كان من الخفايا خلف تلك الأبواب الخشبية العظيمة والتي ما زالت تعتمد على أقفالها القديمة.