عندما تتبدل الفصول، من ربيع إلى خريف، وتلملم الأشجار فتنتها وتشحب، وتنوس الأوراق المتساقطة من أغصانها أسيانة على بهجة الربيع والحياة والاخضرار، خاضعةً لحكمة الزمن وتبدل الفصول في دورتها الأبدية: خريفاً وشتاء وربيعاً وصيفاً. هكذا تلفُّ بالشجر مراجيح الطبيعة وتلفُّ بنا. وإذ تنهض البراعم بحكمة الفصول، هل ننهض مثلها؟ هل تينع أوراقنا بعد ذبولها؟ هل نحن شجر آدمي تهرُّ أوراقنا في دورة الأمراض، كي نستعيد اخضرارنا في دورة العافية؟ لا يموت الشجر والنسغ في أعماقه، لا ينحني إلا لجلال الريح إذ تمر هبوباً عاصفاً. وليس انحناء الشجر كانحناء البشر. أين أنساغنا كي نعيد دورة الحياة، كي نبرعم الأحلام كما كنا في فتنة الصبا؟ لماذا إذا مر الخريف علينا ومر الشتاء ناحت نهايتنا؟ لا نسغ يبقى في العروق. لا نبض يبقى في الجذور. نجفُّ من قمة الرأس حتى أظافرنا. نظل صحراء على جرف الحياة تجرنا الأيام على غفلة إلى قرارها الأبدي.
الروح في أجسادنا كالنسغ في الشجرة. وحين يمر علينا المرض كالخريف نذوي وتتساقط الرغبات والأحلام. وحين نموت نبقى في أولادنا كالشجرة حين تموت تبقى في البذور! هكذا مثلها، نعصى على الموت إذا ما عصينا في الحياة على العواصف والسقوط. هكذا مثلها تمر علينا دورة الفصول: الربيع ميلادنا والصيف صبانا والخريف هدأتنا والشتاء حكمتنا. وحين اكتمالنا تنهض الروح في الثمر. لسنا سوى شجر عاقل في الطبيعة. نحن سدوم الفضاء تنشق نجوماً وكواكب. ندور في مدار الحياة دورة الأفلاك في مدارها. ثم نمضي في الغياب المؤجل، ونبقى كالأطياف في الذكرى، ونبقى مثلها كالشعاع الخفي في غموض السنين.
الأشجار والكائنات لا ترسم غايات ولا تستبطن أهدافاً. إذ تكمن في فطرتها غاية البقاء في نعمة الوجود. ونحن إذ نعقل مساراتنا وهي لا تعقل، فإنما عشق الحياة هو الخميرة التي تحركنا، وتطلق أرواحنا لاجتراح الصعاب! الأشجار أيضاً تتحدى الفناء والكائنات. لأنها تحتال مثلنا وتبني دفاعاتها للبقاء. فهل سيبقى لنا بعد اشتداد الحرارة فصل واحد من الفصول سوى الخريف؟