دائماً ما تجد المدن المقدسة مندسة في الداخل، أو ينتقى لها أن تكون في حضن جبل في عزلة يشوبها الغموض والتخفي، أو تحوطها جبال ليصبح أهل مكة أدرى بشعابها، أو تنتحي مكاناً قصياً عن المدن وضجيجها، وما قد تجلبه المدنية من معاصي للجماعة المتدينة، لن تجد مدينة مقدسة قبالتها البحر، لأن البحر دائماً طريق موصل للغرباء، وجسراً يصلح لكل وقت وزمان لعبور الأعداء إليها.
«كاتماندو» مثلاً، تلك المدينة المقدسة للبوذيين وبعض الهندوس، تقع في واد، تحيط به أربعة جبال من جبال الهملايا، والتي تأسست في القرن الثامن الميلادي «723م»، وقد استمدت اسمها من معبد «كاتماندو» أو المعبد الخشبي.
مدينة «معلولا» السورية قد تكون في البداية مشروع كنيسة في كهف جبل، إما فراراً بالدين أو ملتجأ من هروب الاضطهاد، أهلها من مسيحيين ومسلمين ما زالوا يتحدثون بالآرامية لغة المسيح، ويعني اسم معلولا بالآرامية «المدخل أو الممر» أو «الفج» الذي شطر الجبل ليحمي القديسة «مارا تقلا» من الجنود الرومان، في جوانب هذا الفج هناك غرف ومداخل وخلوات، وساقية ماء، يحج لها المسيحيون تبركاً، وطلباً للشفاء واستجابة للدعوات، ترتفع معلولا عن سطح البحر 1500م، وتاريخها يعود إلى القرن العاشر قبل الميلاد.
مكة، يقال إن تاريخها يعود إلى 4000-2000 ق.م، أول من سكنها العمالقة، ثم بني جُرهم، وارتبطت بالنبي إبراهيم وابنه إسماعيل، وزوجته هاجر، اللذان أعادا بناء الكعبة بعد البناء الأول من قبل الملائكة، وقد دفن إسماعيل وهاجر في الكعبة، والبناء الثالث كان عام 608م، حين قررت قريش حمايتها من الفيضانات والسيول، لها مسميات كثيرة، وهي في مهبط شعاب ووديان، وتحوطها جبال.
القدس يور شاليم بالعبرية أو يبوس أو اور سالم، وتعني أسس سالم، وسالم إله الغسق عند الكنعانيين، ولها مسميات أخرى، يعود تاريخها إلى اليبوسيين، وهم فرع من الكنعانيين 4000 سنة قبل الميلاد، وبالتالي هي من أقدم المدن في العالم، لها أهميتها عند اليهود بعد أن اتخذها داوود عاصمة عام 1000ق.م، وعند المسيحيين لأن المسيح صلب فيها، وعند المسلمين أولى القبلتين وثالث الحرمين، تقع على هضبة تحوطها جبال الخليل، وقد تعرضت طوال تاريخها الطويل لغزوات وتدمير وحصار وكل نكبات التاريخ وكوارث الطبيعة.
تلك مدن من المدن المقدسة عند الشعوب، وهناك غيرها تأتي بعدها، لكن طبيعتها الجغرافية كلها واحدة، والحديث عنها يؤدي بنا نحو الطريق إلى الفاتيكان، قلعة المسيحية الكبرى اليوم، والتي هي كمكان قديم، ولكنها كمسمى حديث نسبياً، تعود لعام 1929 بعد اتفاقية «لا تران»  حيث سمحت مملكة إيطاليا بإنشاء مدينة داخل مدينة روما، اتخذت اسمها «فاتيكان» والذي يعني «مكان التنبؤات»، وجذر الاسم له اشتقاق من اللاتينية «vaticinari» الذي يعني تنبأ أو «التنبؤ»، وفي الأصل «فاتيكا» أو باللاتينية «فاتيكوم»، وهو اسم لجزيرة إيطالية، وأطلق عليها «الرومان اسم «أغير فاتيكانوس Ager Vaticanus»، وسيتحول المكان، والمسمى هضبة الفاتيكان من مكان يضطهد فيه المسيحيون إلى عاصمة لهم في التاريخ الحديث، ومصدر لفخرهم.. وغداً نكمل.