كنت جالساً أتأمل الوجوه المارّة في ذلك الزقاق الحجري الضيق في جزيرة «كابري»، وهي عادة جميلة وأحبها كثيراً، مثل نوع من التأمل في الحياة ومجرياتها من خلال قراءة الوجوه، والشخوص العابرة، وفجأة ظهر لي وجه كأني أعرفه أو مختزن في قاع الذاكرة، فقلت: الجاحظ! دونما أي تفكير، هل الصور المكتوبة والتي نقلت لنا عبر كتب التاريخ والسير والحكايات على مر التاريخ، يمكنها أن تتحول إلى صور واقعية تمشي على الأرض؟ وهل هناك من حقيقة بشأن فلسفة التناسخ عبر الأزمان، وعبر الأرواح؟ لِمَ حين رأيت ذاك الرجل في عمره أمس، وفي ذلك الزقاق في كابري البحرية، البعيدة عن البصرة البحرية، قلت إنه الجاحظ، وأعتقد أنه يمكن أن يكون عائشاً عبر الأزمان في جلباب مختلف، وفي مهنة لا تمت بصلة لمهنته القديمة الكتابة والتدوين والحياة من خلال السخرية والظرف، والبحث عن المزحة والضحكة في كل وقت، فعاش فرحاً يحب المعرفة، باحثاً عن الجمال، دافناً تحت قدمية كل القبح الذي وهبته إياه الطبيعة وقسوة الحياة.
توجد في كل مجتمع شخصيات مهمة وبارزة في كل مجالات الحياة، ويعدون أبطالاً، ويفخر بهم المجتمع والناس فيما بعد مماتهم، لأنهم يبرزون في الغياب وحين يتذكر الناس، ويصبحون مشهورين، خاصة المبدعين في العلوم والفنون والآداب، لأنهم يفيدون البشرية، ويرتقون بالحضارة الإنسانية، ويعيشون مع الناس في مختلف حياتهم، وعبر أجيالهم، مثل شخصية الأديب والكاتب «عمرو بن بحر بن عثمان» والذي اشتهر بلقب «الجاحظ» لجحوظ عينيه، لأنه كان قبيح الوجه، ذا بشرة سوداء داكنة، لكن هذا لم يمنعه من النجاح والشهرة وحب القراءة والكتابة، وإجادة اللغات الأخرى مثل اللغة الفارسية، ويصبح شخصية محبوبة بين الناس، ويقدم لهم الضحكة والبسمة والمعرفة، لأنه كان يحب السخرية في حياته وفي كتاباته، وترقى في الحياة حتى أصبح رئيس الخطاطين والكُتّاب في قصر الخليفة.
ولد في البصرة في العراق عام 775 م، وتوفي فيها عام 868 م، وقد عاش 92 عاماً، في زمن الدولة العباسية، وسبب وفاته سقوط كتب مكتبته عليه وهو كبير السن، فمات تحت الكتب عشقه الأول والأخير.
عاش الجاحظ فقيراً، لكنه درس على أيدي العلماء والفقهاء واللغويين، وكان يحضر مجالس العلم والأدب، ويشتغل عند الخطاطين، وكان أحياناً يأخذ أجرته كتاباً لا مالاً.
من أشهر كتب الجاحظ كتاب «البيان والتبيين» وكتاب «الحيوان» وكتاب «البخلاء»، وكتاب «المحاسن والأضداد، و«الرسائل» وغيرها من الكتب الكثيرة التي تزيد على المائة، وفيها يجمع بين الكتابة النثرية والشعرية والمعلومة العلمية والنوادر والقصص وعلم الحيوان وعلم النبات والفلسفة والتاريخ، وحتى جزء من علوم الأحياء، والاجتماع.
ما تزال كتب الجاحظ باقية بين الناس، يقرؤونها ويستمتعون بها، وقد ترجم بعضها إلى اللغات الأجنبية، حتى بعد وفاته منذ أكثر من 1200 سنة، مما يجعله يعيش في كل العصور، وهذا سبب شهرته، وبطولته، لأنه لا يزال حيّاً بكتبه ومؤلفاته المهمة.
شكراً لذلك الرجل الخاطف، والذي مرّ أمامي في ذلك الزقاق في المدينة البحرية الإيطالية، ليقول لي: إن شعاع المعرفة قد توقظه شرارة صغيرة، وإن التفكير العميق قد تجلبه ريح عابرة، وإن التفاصيل تخلق الموضوعات، وإن الوجوه قد تتشابه بعيداً عن الزمان والمكان، وإن الجاحظ قد عاش طويلاً في الزمان والمكان، والدليل هذا السؤال الذي أيقظ ذاكرتك، وجعلها مشتعلة بالذي رأت وشهدت.