إيطاليا.. الضاحكة دائماً.. الفرحة دوماً بتلك الفوضى التي فيها، وتعجبها، إيطاليا هي الوحيدة التي تشعر فيها بالخفة والمرح دونما أي سبب، ثمة بهجة تلاحقك وأنت تجوس ديارها، وتحتار من أين تبدأ في مدنها التي تتجاذب الزائر بمغريات عديدة، هل تبدأ بروما.. تلك الذئبة الواقفة على تلال التاريخ السبعة التي تحوطها، تشاهد حريقها ورمادها، وذلك المجنون «نيرون»، المنتحر الضاحك بنشوة النيران والرماد، وتتذكر أمجادها؟ أم تيمم شطر مناطق «توسكاني»، حيث عروش العنب ومخزون الجبنة العتيقة، وتلك المناطق الباردة بالظل والنسمة، وتلك الخضرة التي تجلي البصر؟ لابد أن ميلانو أول المطاف أو آخره، حيث معارضها التجارية المتجددة والمتنوعة، وحيث للشراء متعة التأمل في واجهات الحوانيت القديمة والعصرية على السواء، وحيث تلك الساحة الممتدة كبساط تحت أقدام الكاتدرائية العظيمة، ثمة قرى وادعة يمكن أن تنسلّ لها في مصالحة مع الطبيعة، بعيداً عن ضوضاء بعض المدن، مدن أخرى كانت انطلاقاتي في زياراتي المتكررة لإيطاليا، كالبندقية العائمة على ذكرياتها التي لا تحب أن تنفصل عنها، بولونيا، حيث حضر الكتاب وما يدونون في معرضها الكبير، فلورنسا.. تلك اللوحة الانطباعية التي لا تود أن تغادر إطارها القديم المذهب، أم الفاتيكان، حيث هناك شيء من طمأنينة النفس، وسكون الروح.
بعض البلدان، وإن كنت تتذكر زيارتها الأولى مثل شيء ممهور في الرأس، إلا أنك لن تعدّ بعدها كم مرة زرتها، منتقياً منها مدناً بعينها، جزراً بعينها، تتعدد زياراتك في فصول السنة الأربعة، وفي كل فصل ترى لها وجهاً جميلاً آخر، من هذه البلدان التي لا يمل المرء من تكرار السفر إليها إيطاليا مثلاً، ولا يكاد بلد يشبهها، بلد يدهشك على الدوام، ويقدم لك مدنه كأطباق إيطالية تشتهى، ولا تنتقى، كل مدينة بطابعها، وحسها ورونقها، لا تجمعها إلا تلك اللمسة الإيطالية الراقية، بذوقها المغاير والمجنون والراقي على الدوام، مدن على البحر، مدن على السهل في الداخل، مدن على الجبل متطرفة، مدن هادئة هدوء بحيراتها، مدن مثل القرى، لكن لها ضجيجها، مدن تتاخم حدودها حدود سويسرا، حيث ترمد العين إن لم ترها، إيطاليا تحدها بلدان عديدة، لكنها لا تأخذ منها شيئاً، فما لإيطاليا لإيطاليا، مثل ما لقيصر لقيصر.
تطمع بصباح ممتع في روما.. تلك المدينة الدهرية، تتعكز على المخيلة التاريخية، وما مر عليها من أحداث، لتبقى العجوز نفسها التي تتمدد روحها على التلال السبعة مثل ذئبة ترضع أيتامها، لكنها اليوم مختلفة وخارج إطارها الجميل الذي صنعه فنانو عصر النهضة، ومخرجون عظماء مثل «فيلليني» حين عدها «مدينة مفتوحة»، و«الحياة فيها جميلة»، وحكائون مثل «البيرتو مورافيا»، و«دانتي» في جحيمه الكوميدي.. روما اليوم خارج وقتها، وبعيداً عن ألقها القديم، العهد الأول بها قبل أربعة وأربعين عاماً حين كانت متأنقة، وكل شيء فيها له لمسة إيطالية رفيعة المستوى، اليوم ضجيج وزحمة ونشالون آتون من بحار العالم، وثمّ تراخٍ في القوانين، وقليل من يسأل، وضحكة الإيطالي غابت منذ نزل من قريته الجبلية باتجاه روما الجاحدة، وسجن نفسه في شقة لا يعجبه صبغها.. اليوم، حتى لا «كابوتشينو» في روما.. وغداً نكمل