العبوديةُ الصغرى هي أن تظل سجيناً في مربع الروتين، ويكون يومك تكراراً مملاً لما قبله وما بعده. ترى الوجوه نفسها في كل صباح وتعيد معهم أسطوانة الركاكة والحشو. وحين يهبطُ المساء، تجلس صنماً أمام شاشة الوهم، قانعاً نفسك بأنك صرت تعرف أكثر وأن عقلك يتسع لتدرك ما يدور في العالم من أهوال وأحداث. أما العبودية الكبرى، فهي أن ترى باب الحرية مفتوحاً أمامك، ولا تجرؤ على الخروج منه. وأن تسمع المرأة التي أحببتها تناديك: اقترب، لكنك تختار أن تنأى إلى ضعفك، وترضى بأن يكون مصيرك مجرد مشي عبثي في دروب التيه.
الحرية الصغرى هي أن تمسك بالقلم وأن تحاول أن تكتب ما يعجز عنه لسانك حتى وإن كنت وحيداً في غرفة مغلقة ولا حرّاس من حولك أو رقيب. هذه جرأةٌ لا ينالها كثيرون. أما الحرية الكبرى، فهي أن تحسم ذلك الشك بين عقلك وقلبك، الشك الذي يجرّك إلى الاشتباه في كل معنى إلى درجةٍ تدفعك للعيش متأرجحاً بين الأبيض والأسود. مرة تميلُ هنا فتلدغك الأفعى، ومرة تلجأ إلى هناك فتضطرّ أن تبحث عن سمّها علاجاً لسأمك. وما من حرية تُلمس حقاً، إلا بالتخلص من تضاد الروح والعقل والجسد. هناك، عندما تتوحدُ كلياً مع ذاتك، وتكتشف أنك جزء مهم من الكون، والكون جزءٌ مهمٌ منك أيضاً.
يتزوجُ الرجلُ الحزين من المرأة السعيدة وينجبان طفلاً اسمه: الميزان. لكنه يعيش متقلباً كلما اختلفا وتخاصما وتشاجرا في الأمور التافهة. وقبل أن يكمل عامه الأول، يطالبه الفلاسفة بالاتزان ولو لمرة واحدة، لكنه لا يقدر بسبب التنافرات الحادة في مزاج الكون. وفي عامه الثاني، يدربه الملقنون على الانحياز إلى الثقلِ في المعنى، ولكن يغلبه الثقل في الشكل. وحين يصير شاباً مفعماً بالنشيد الحر، يحتار إلى أين ينحازُ وفي هذه الكفة قد وُضع السيف، وفي الكفة الأخرى رُميتْ الكلمةُ المسكوت عنها. طفل الميزان هذا هو الرمز الفضيّ المسكوك على العملة التي لا يقامر بها أحد.
جرحك الملموس حين تنزف أحمر الدم، سهلٌ علاجه، لكن جرحك اللا مرئي، ذاك الذي يخدش الروح ويفكّك اطمئنان عقلك ويجرّك للسؤال عن سبب انفصام ذاتك. ماذا ستفعل معه؟ وما من مداوٍ سوى الانتباه، وما من حقيقةٍ سوى أنك عابر مثل ريشةٍ في تبدلات الريح.