حتى أنا لم أتوقع أن أكتب عن الذاكرة بهذا الزخم، تخبرني صديقة لي أنها وجدت فيما أكتب مؤخراً أمراً طيباً، كوني أتعامل مع الفقد وذكرياته على نحو إيجابي، والحقيقة أنني لم أنتبه لهذه العلاقة حتى وقت تعليقها، فغالباً ما كنت أتعامل مع الذاكرة وذكرياتها بأنها شيء مؤلم، فهي إما ذكرى قديمة مؤلمة توجع صاحبها بتذكرها، وإما ذكرى جميلة ماضية تؤلم برحيلها!، ولا أعلم من أين جئت بهذا البؤس في التعامل مع إرثنا الوحيد، الذي يبقى لنا بعد رحيل كل شيء.
لا أذكر مرة جالست فيها والدي إلا وكان له حديث عن أمرٍ مضى، ذكريات طفولته وشبابه، طفولتي وطفولة إخوتي، قصصنا التي كان يسترجعها مراراً وتكراراً ويضحك عليها من قلبه، قائلاً: أختك هذه كانت دائماً ما تُضَيِّع حذاءها، وأختك تلك كانت تلح عليَّ كل يوم للذهاب إلى العيادة مدعية المرض للخروج من المنزل، أخوك هذا...، وهكذا قصص من ذكرياته، يحكي تفاصيلها بمودة، وفي كل مرة كان يضيف شيئاً، اعتقدت مراراً أنه كان يفعل ذلك ليشعرنا بلطف تلك الذكريات، وليبقينا مندمجين معه في الضحك.
لأبي -رحمه الله- أيضاً علاقة قوية بالذكريات، فكان يصرُّ على أن يحتفظ بكل «الدروع» التي كانت تصلني في التميز الدراسي والوظيفي، في الوقت الذي كنت أراها ثقلاً يحمل مساحة في المكان بلا جدوى، مكتفية بشهادات التقدير، كان يراها هو شيئاً يستحق أن يفرد له مكاناً في مكتبه، حتى أصبحت أحرص عليها لكي أمنحها إياه، فيسعد بها ويسألني عن سبب استحقاقها، وغالباً ما كنت أسأله: هل حقاً تريد أن تعرف هذه التفاصيل؟، لم أكن أعرف أنه كان يثري ذاكرته بذكرياتنا، ويثري ذاكرتنا بذكرياته!

الذكريات هي الإرث الوحيد الذي يبقى معنا، نحمله كرهاً ونحن نمضي في أيامنا غير مدركين أهميته وجدواه، حتى تأتي لحظة، ويفرض هذا الإرث نفسه على اللحظة الحاضرة، فتكتشف فجأة أنه مستحق، وليته حُمّل حباً وحنواً واهتماماً، الذكريات هي الوعاء الحقيقي لكل لحظات العمر المؤثرة المؤلمة قبل السعيدة التي شكلت كياننا الحاضر.