نعتقد دوماً أننا من نُملي شروطنا على ما يخصنا، أجسادنا أو عقولنا على سبيل المثال، بدواعي السلطة المطلقة التي لا يشاركنا فيها أحد أو حتى الفهم الكامل لأنفسنا، فنتصرف ولزمان قد يطول كثيراً على نحو غارق في السذاجة، بينما يخبرنا الواقع وبعد تجربة طويلة - لمن حالفهم الوعي- بأن الحقيقة أننا نتحرك تحت وطأة اشتراطات لا حصر لها. بمعنى أنه لكي تحصل على هذا.. فيجب أن يكون الأمر على هذا النحو.. وأن تكون أنت كذلك.. وأن يكون المحيط بهذه الطريقة.. وهكذا! 
هذا ما يحدث تماماً مع الذاكرة التي نعتقد أنها طوعنا، حاضرة وقت استدعائها بسهولة، بينما الحقيقة أنها - بجانب كونها مخادعة لا تنقل الحقيقة فعلاً - تملي شروطها واشتراطاتها الخاصة. فلكي تحضر «الذاكرة» عليك أن تكون متأثراً بها فعلاً، مستذكراً لها باستمرار، راغباً بها بشدة ومستدعياً لها بداع مستحق، مقدراً حضورها بهيبة، مستعرضاً لها بأمانة، معبراً عنها بكل حواسك. قد يبدو الأمر مبالغاً إلى حد ما، فما الداعي لكل هذا عند استذكار «أمر ما»؟!
وللعلم فعبارة «أمر ما» في الفقرة السابقة في غير محلها، فالذاكرة لا تسترجع أي «أمر ما»، وهذا أول شروط حضورها، إذ يجب أن يكون هذا «الأمر» ذا تأثير في حياة صاحبه أو حياة الآخرين. وهذا الشرط سبب أساسي لعدم تذكر الكثير، والكثير من الأمور التي تمر علينا كونها من دون تأثير يذكر. بينما يستذكرها آخرون بانسيابية. ثاني الاشتراطات هو استذكارها بمعنى استرجاعها وإعادة سردها في فترات مع الذات أو مع الآخرين، وهذا الاسترجاع يكون بأمانة - وهذا الشرط الثالث - من دون تحريف، كون ذلك قد يغيبها. ومن شروطها كذلك «الظرفية» التي تُستدعى لها، إذ يجب أن تكون مستحقة وليست اعتباطاً، أي أنها تُستحضر في وجود أمر ذي علاقة وارتباط كامل. ومن شروطها أيضاً التعاطي معها بكل الحواس، فتبدو وأنت تسترجعها وكأنك تعيش هذه الذكرى الآن.
تلك الاشتراطات هي ما تجعل بعضنا يملك ذاكرة حاضرة ومُنسابة على عكس آخرين. ومن يعتقد أن هذه الاشتراطات خارجة عن إرادتنا، أخبره أن الحضور الفعلي للوعي في أغلب تفاصيلنا اليومية مهما صغرت، وتعمدنا جعلها ذات تأثير فينا وأثر على الآخرين، يجعلها ترتقي لدرجة الذكريات القابلة للاسترجاع، فلا تبقى مجرد «أمور» تغيب في ثنايا ودهاليز أدمغتنا.