يتداخل الشعر مع قضايا الإنسان العظمى، ومن بينها الحب والحرب، الخير والشر، الخيانة والوفاء وغيرها من متناقضات الوجود. لكنه في العمق، حين يتطرق إلى مثل هذه الإشكالات، لا يذهب إلى اقتراح صيغ عقلانية لتجاوز هذه المفارقات، بقدر ما يصف ويفكك ويهدم نمطية النظرة السطحية للأشياء ويذهب بنا إلى ملامسة جوانب غير مكتشفة في نظرتنا إلى الوجود الكبير المتناقض بشكل لا نهائي. لذلك، تأتي قصيدة الحب مثلاً وهي تحمل فكرة مستحيلة عن طبيعة العلاقة التي يراها أو يتمناها الشاعر ويرسمها على شكل عاشق يحلّق بجناحين من ورقٍ ليكتب اسم عشيقته على صفحة الريح. هكذا يتم تطويع اللغة لبناء صور غير ممكنة إلا بالحس الشعري وحده. أيضاً تتكرر اللعبة الشعرية في قصائد الحرب عندما يصف الشاعر نار الكراهية وكأنها وحشٌ كاسر يؤذي الجميع، لكنه يموتُ سريعاً إذا قاومناه بالمحبة والتآلف وعناق القلوب.
نعم، يغوص الشاعر ويتمادى في وصف التفاصيل وبناء الصور مبتعداً عن لغة التلقين أو عبارات النهي والأمر. ليس من مهمة الشاعر أن يشير لأحد باتباع هذا الاتجاه أو ذاك، بقدر ما يذهب إلى ممارسة لعبة الكشف، وحين يبالغ في رسم المشهد أو تعظيم الأوصاف أو تفخيم النعوت، فذلك لأنه يريد منك أن ترى الصورة الكبيرة المستترة وراء ما تراه عادياً أو مقبولاً. ها هو يكتب مقطعاً عن السيف باعتباره (أصدق أنباءً من الكتب) وهي رمزية عالية تتجاوز الشكل الظاهر لتصيب المعنى في صميمه. وكل قصيدة عظيمة إنما تذهب إلى هذا العلو من التفخيم اللفظي والدلالي كي تُدرك أنت كقارئ، بالحس والمشاعر، أين تكمن الحقيقة.
هناك، في تكنيك الكتابة الشعرية، الكثير من الأساليب التي يرصدها النقد ويحاول أن يؤسس لها كقيم فنية عالية عندما يستخدمها الشاعر، ومن بينها بالطبع القدرة على توليد الاشتقاقات من داخل اللغة وبناء الصور المتخيلة ومنح الكلمات دلالات جديدة غير مطروقة أو مسبوقة. لكن يظل التجديد الشكلي هامشياً إذا لم يذهب الشاعر إلى منح القصيدة شحنة أو دفقة عاطفية عالية يشعر بها القارئ. وهذا السر لا يعرفه كثيرون ممن تشعر بنصوصهم وكأنها خالية من الروح. وبالأخص الروح الشعرية للغة العربية الجميلة والعالية.
يظل الشعر أسمى درجات التعبير الإنساني، والأمم التي يكون الشعر حاضراً في يومياتها، هي بالتأكيد أمم مبدعة وخلاقة.