مدينة الأسد
ربما استغرقت الرحلة بالقطار من تلك المحطة البائسة شبه المهجورة الواقعة في الغابات المطيرة بجنوب ماليزيا نحو ثماني ساعات قبل أن تصل إلى سنغافورة، عبرنا خلالها مزيدا من الغابات التي لا يسكنها سوى القرود والسعادين، التي تحب معاكسة المسافرين فتتبع القطار السريع متسلقة على الأغصان وهي تصدر زعيقا ربما يكون تنبيها لبقية أفراد القطيع لخروج المتسكعين منهم على سكة القطار.
تنظر إلى الخارج لا ترى سوى الأغصان المتشابكة وقد تنقطع أحيانا ليظهر لك منها نهر أو شريان ماء، كانت الرحلة ممتعة نوع ما وشغلت نفسي بالقراءة طوال الرحلة التي لا يوجد بها أي نوع من التسلية، وربما غفوت قليلا، وتجولت بين عربات القطار قليلا.
وصل بنا القطار إلى سنغافورة مساء، وعندما خرجت من محطة القطار لم يكن في ذهني أدنى فكرة عما سأفعله، فتسكعت في شارع الأوركيد الشهير، وانتهى بي المطاف في فندق رخيص إلى حد ما قريب من الحي الهندي والتي تسمى هنا "ليتل إنديا".
كانت هذه البلاد قبل أن تصبح مستعمرة بريطانية إحدى الجزر التابعة للإمبراطورية السومطرية في القرن الثاني الميلادي، ثم تطورت وسميت بلغة أهل "جاوا" (تيماسيك) والتي تعني "مدينة البحر" لتصبح جزءا من سلطنة جوهر في الفترة ما بين القرنين السادس عشر وبداية القرن التاسع عشر، قبل أن تتحول إلى مرفأ غامض للقراصنة، بعد أن أحرقها البرتغاليون، وتستمر غارقة في الظلام لقرنين من الزمان، غير أن أسطورة شعبية بقي سكان البلاد يتناقلونها لغاية الآن تتعلق بتسميتها بهذا الاسم الذي يعني "مدينة الأسد" فيروى أن أميرا سومطريا كان يستكشف الجزيرة عندما شاهد أسدا. فسمى الجزيرة مدينة الأسد على الرغم من أنه تبين لاحقا أنه ليس هناك أسود تعيش على الجزيرة، وجاء نحات أوروبي بعد أن استقلت المدينة عن الاتحاد الماليزي في ستينيات القرن الماضي ليخترع لهم أسدا بجسد سمكة ليكون شعارا وطنيا رئيسا للبلاد، لتصبح البلاد اليوم أحد أهم الموانئ التجارية في العالم ولتحجز لنفسها موقعا منافسا للدول الصناعية الكبرى.
في اليوم التالي وجدتني أتناول إفطاري في مقهى أميركي في مكان يسمى "جمهورية الغذاء"، وتفاجأت عندما صادفت أحد أعضاء فرقتنا الموسيقية الجوالة، وهو شاب خليجي فأكملنا التسكع معاً، فبعد أن هجرت الفرقة قرر هو الآخر أن يهجرها ويكمل أسفاره في هذه الأنحاء محتفظا بآلته الموسيقية ليقدم بعض الأنغام هنا وهناك، بل وليشارك في فعاليات شارع العرب الذي اتخذ اسمه من عدد المحال التي تحمل لوحاتها أسماء عربية في حي يسكنه المسلمون من سكان البلاد الأصليين.
سعيد البادي | rahal ae@gmail.com