اللغة هي تلك الخارطة الجغرافية التي تطوق عنق الهوية، وهي التضاريس التي تشير إلى جبال الهوية ووديانها وأنهارها ومضاربها ومنازل أهلها.
اللغة هي تلك الرموش التي تلون مقلة الهوية، وتثري جمالها، ومآلها، وموالها، ومنوالها.
فعندما تخلع اللغة قميص هيبتها وتتسرب في الوجود مثل فراشة ضائعة، وعندما تترك للرياح بعثرة تفاصيلها، وتمزيق أوصالها، تصبح الهوية مثل غزالة هاربة من بطش الغابة الموحشة، تصبح الهوية مثل فكرة طائشة، تلاشت عنها حروف الأبجدية، وفاضت بأصوات مبحوحة، تجرحها سكاكين الاغتراب، وتمض روحها سهام الاستلاب.
في الطريق إلى المدرسة، وأنت تصطحب ابناً أو ابنة، تصدم أذنيك لغة ما أشبه بتصادم أدوات معدنية في مطبخ يعج بالفوضى، تشعر بأن اللغة العربية تئن من شديد أزمة أخلاقية اخترقت حاجز الصوت واستقرت في البيوت التي تسكنها أرواح جاءت من ما وراء هذا العالم، واستقرت، وتحكمت بالشريان والوريد، وأضحت تكتب أبجدية جديدة على لسان أطفالنا، وتنسخ ثقافة مشوهة، وتغير في معالم الجغرافيا، وشكل التاريخ، فلا اللغة لغة، ولا الثقافة ثقافة، سوى أنك أمام مشهد يفري الروح ويطيح بسحنة الصحراء، ويغير من ملامح الوجه البحري، ويجعل من الحياة كأنها قشة تطيح بها تيارات هواء بارد إلى درجة التجمد.
وتقول في نفسك، إن كل ما نتمناه هو عقد صفقة تسامح مع اللغة، وعدم المساس بثوبها الحريري، وترك قميصها الأبيض الناصع يزخر بألوان الرمال التي شكلت وجدان الناس على هذه الأرض الطيبة، وتتمنى أن تتمسك الأمهات بلوازم الانتماء إلى الأسرة، ومن أهمها الالتزام الأخلاقي بلغة أهل الدار، وعدم التفريط بأبجديتها الجميلة، ومن دون احتقار لغة الآخر، بل كلما احترمنا لغتنا، زادت وشائج القربى مع لغات الغير، باعتبارها، الجزء المكمل لعبور النهر، والدخول في علاقات إنسانية، شيمتها الحب، وسمتها التداخل برزانة حضارية، ووعي إنساني أوضح من بريق النجوم، وأكثر صرامة من شموخ الجبال.
لغتنا بحاجة إلى الحنان، من ذوي القربى، لغتنا بحاجة إلى مشاعر أرهف من أجنحة الطير، لتصبح في الزمان، طوقاً، وذوقاً، وحدقاً يتطور نسلاً في الوجود، كأنه الحلم في عيون الطفولة، كأنه الرمش المكحل بأثميد الجمال.
لا تستقيم الهوية من دون لغة حروفها من حرير الانتماءات التاريخية، والحضارية، ولا تنمو الهوية في الضمائر، إلا من خلال لغة تشد حروفها بعضها البعض، كجدران البيت الواحد.
فعندما نتعلم اللغة، فإننا نمسك بطرف الخيط الرفيع، المؤدي إلى بيت الهوية، والتي تكون في الانتظار عند عتبة خيمة الأسئلة العميقة.
وهل يوجد في الوجود ما هو أجمل من الهوية التي ترعرعت على حبات التراب في هذا الوطن الرائع، وطن الحب، وطن التسامح، وطن التصالح مع الذات، وطن كل من تسير قدماه على هذه الأرض السخية.