وحيداً في الغابة
أخذتني الجولة الفنية مع الفرقة الموسيقية الجوالة بين المدن الماليزية، إلى مدينة "ملقا" الوادعة المستلقية على مضيق "ملقا"، أو لعل أصلها "ملكة"، مدينة جميلة رائعة تشم رائحة تاريخ عريق بين جنباتها، وهي تمنحك ذلك الشعور بالانسجام مع المكان، ربما لأن ألوانها تجعل الحياة تدب في شرايينك، وربما لأنه على الرغم من عمرها القديم وتاريخها العريق الواضح على مبانيها وشوارعها، غير أنها شابة تضج بالحيوية في تفاصيلها، وربما يعود ذلك لأنها ثالث أصغر ولاية في الاتحاد الماليزي.
وبعد أن ودعت أعضاء الفرقة واعتذرت لهم عن إكمال الجولة، لأنني اكتفيت في الوقت الحالي من ترديد أغاني الثمانينيات والسبعينيات، فمكثت في "ملقا" قليلاً، أعيش تفاصيلها ويومياتها، أشعر أحياناً كأنني أعيش في معرض فني من عصر النهضة، وذات مساء قررت إكمال الرحيل، فتبرع أحدهم لإيصالي لأقرب محطة قطار، تبعد نحو ساعة أو أكثر قليلاً عن المدينة، وفي الطريق أخبرني بأن عليه أن يمر لاصطحاب زوجته وولديه، ولم يكن يعني ذلك شيئاً لي، فكانت كل الأحاديث معه تدور حول الزواج والمسؤوليات والحب ومتاعب الحياة.
عندما وصلت المحطة، اكتشفت بعد أن غادر السائق أنها كانت شبه مهجورة، تجولت فيها قليلاً، إلى أن وجدت موظفاً بائساً يجلس وراء منضدة خشبية عتيقة، أخبرني أن القطار فاتني وأن الرحلة القادمة ستكون في الصباح التالي، لكنها تتجه إلى ميناء "جوهر بهر" ومنه إلى سنغافورة، فقررت الانتظار، وهكذا وجدتني في تلك المحطة المهجورة التي لا شيء فيها، لا استراحة أو مهجع يمكن المبيت فيه، ولا حتى مقصف أو مقهى يمكن اللجوء إليه، لا شيء سوى أصوات القرود التي تعيش في الغابة المحيطة.
جلست على الرصيف، شعرت بالملل ونحن في أول الليل، وعامل المحطة غادر بعد أن أقفل مكتبه، شعرت بالوحدة، داهمتني الهواجس، ذرعت الرصيف جيئة وذهاباً، رميت الحجارة على مباني المحطة، وعلى أشجار الغابة، أزعجت المخلوقات التي هجعت للنوم مبكراً، حاولت كسر إقفال المكاتب البائسة، بحثاً عن طعام أو ماء، أو تسلية، ولم يكن هناك ما يمكن الاستفادة منه، ارتميت على كرسي المحطة الخشبي البائس، راقبت النجوم والقمر الحائر المختبئ وراء أغصان الأشجار الباسقة، وفي وقت ما من الليل، أفقت بعد أن وجدت نسناساً يعبث بشعري وبأغراضي، طاردته هو ورفاقه، ووضعت حقيبتي المهترئة تحت رأسي، وأكملت نومي لأفيق على ضجيج الناس المتوافدين على المحطة في الصباح الباكر، وقد دبت الحياة في الرصيف البائس. وللقصة بقية..
سعيد البادي | rahal ae@gmail.com