أقنعة فرانكشتاين السردية
الآن وقد ابتعد الاحتفاء برواية أحمد سعداوي «فرانكشتاين في بغداد» وما يحف بالفوز من موجهات قراءة خارجية مستمدة أحياناً من ثقل الجائزة والأعمال المتنافسة عليها، يمكن للقراءة النقدية أن تكون أكثر اقتراباً من العمل ذاته، تماماً كمشاهدة اللوحة الزيتية، حيث تختلط الألوان عند الاقتراب منها، بينما تبدو واضحة عند الابتعاد عنها بمسافة كافية. ذلك جزء من مشوشات القراءة التي أرى أننا بحاجة إليها في لحظة ما من التقييم والمقارنة. فالرواية الفائزة لا تخفي مرجعياتها. العنوان الذي يفصح عن شخصية فرانكشتاين، والمقتبس من رواية ماري شلّي، لا سيما عبارة (إذا شئت فدمر عمل ما صنعت يداك)، والإشارة الضمنية للفيلم المأخوذ عن الرواية، وكذلك تجميع المسيح لأجزاء من جسد ماركوركيس وعودة الحياة له. تلك وسواها من الإشارات هي إفصاح عن تأثر الكاتب بتلك الشخصية التي خلقها فرانكشتاين، وصارت ترتكب الجرائم التي سئمها هو نفسه. لقد غدا هادي العتاك فرانكشتاين. وبدقة قراءته وتصميمه المتقن لعمله جعل أحمد سعداوي المخلوق المسخ (شسمه) الذي يجمع هادي أجزاءه بلا اسم. المحيط الواقعي للأحداث واختيار محلة شعبية فقيرة وشخصيات متفاوتة المستوى أشبع الجانب الواقعي من العمل، وهو الذي يحرص عليه الكاتب حتى باستخدام العامية في كثير من الحوارات وفي الوصف أحياناً.
لكن القراءة اللاحقة للعمل ستكتشف أن ثمة موازنة معقدة نجح سعداوي في ضبط أطرافها، أعني تقديم الفانتازيا والاستغراق في الخيال بطريقة تعضد واقعية العمل. دوماً هناك مواءمة مدروسة بين الواقعي والفانتازي. الشبح أو المسخ يعيد بناء جسده بأجزاء من ضحاياه ويواصل عمله، ولكن وسط الحركة الدائبة للحياة التي تغمر بأحداثها شخصيات العمل وترتب نهاياتهم ومصائرهم السردية. انفجاران ضخمان يؤطران العمل كقوسين كبيرين: ينفتح أولهما في استهلال الرواية هو انفجار ساحة الطيران، لينتهي العمل بانفجار آخر في في محلة بائسة هي البتاويين، حيث تدور الأحداث وتتم أفعال السرد وتجتمع الشخصيات وتتفرق أو تختفي بالموت والهجرة كما يندثر تراث المحلة وماضيها. وإذا كان تفجير ساحة الطيران مدخلاً لتعميق صورة العجوز ايليتشوا، فإن تفجير البتاويين كان مناسبة لتحديد مصائر أغلب الشخصيات: لعل أهمها الصحفي محمود السوادي الذي يعود للعمارة مجدداً. تلك الشخصية التي تتولى الكثير من تغيرات السرد وتشهد على نماذج وتكشف أقنعة كثيرة. لكن الحبكة الأساسية أو قصة المسخ المجمَّع من أجزاء الضحايا والقتلة أحياناً، تتسلسل متداولة بين أيدي رواة عدة: يبدأ الصحفي محمود بالعمل على كشف لغز المسخ أو الشبح، عبر تفوهات هادي، ثم يعطي مهمة السرد للشبح نفسه وعبر مسجلته، لتباع القصة والآلة للمؤلف الضمني في العمل الذي يكون وسيلة المؤلف الحقيقي في استكمال عمله. ربما كان ذلك منطقياً ضمن الأحداث نفسها التي حرص الكاتب ببراعة على ترتيب تناوبها وقطعها ثم العودة لاستكمالها بما يشبه عمل السيناريو السينمائي. أما التقرير السري للجنة المتخيلة، فقد خسر بتقديمه في الاستهلال أثره المحتمل في تقرير المصائر وتعميق الدلالات. وكان الأجدر اختتام العمل به.