الفن والبطن
الفن نشاط إنساني ضد الكآبة، الملل، الإحباط، نكد الحياة الروتينية اليومية بكل أشكاله ودرجاته. هو إعلان تمرد على الشقاء، البؤس، التعاسة، هدر الوقت والحياة. الفن في مواجهة الموت هو الحياة.
حين تمسك ريشة لترسم، قلماً لتكتب، كاميرا لتصور، حجراً لتنحت، آلة لتعزف، فأنت تعلن تشبثك بحقك في الحياة. التشبث بالحياة في عالم يصفق للموت: إعلان جهاد استثنائي.
الفن نشاط إنساني خاص، فأنت حين تستسلم لغرائزك البدائية تكون أقرب لعالم الحيوان. حين تندفع وراء أطماعك المادية تصير أقرب لعالم الآلة. وحين تمتلك شغفاً فنياً، تنغمس فيه وتمارسه بتجرد، تصير إنساناً يقف على أطراف أصابعه وأقرب للسماء، ليجعل الأرض أحلى.
الفن حين تكون مخلصاً له يخلصك من الشوائب؛ تلك التي تجعلك مليئاً بالأحقاد، الكره، الحنق، الغيظ، التعصب والعصبية، الحسد والغيرة. الفن يجعلك أصفى، مثل سطح ماء رائق يصير وجهك، وقلبك يصير أقرب لجلدك الخارجي، يندمج عمقك مع سطحك، فتصير مرئياً من الداخل، متطابقاً مع الخارج.
الفن يجعل الحياة كتاباً مفتوحاً لك، سهل قراءته. يجعل كل تلك الخيوط الدقيقة، التي تلتف حول الانسان العادي، حول عينيه، أذنية، فتحات أنفه، ورقبته.. دون أن يتمكن من استيعاب أطرافها ليمسك بها قبل أن تخنقه، يجعلها في متناول يديك أنت، لتشكلها كما تشاء، تداخلها بعضها بعضاً، تجمعها، تفرقها تكومها، تنسجها أو تمزقها.. وتتحرر.
الفن يهبك مفتاح بيت العنكبوت، لتفتحه وتخرج طائراً إلى الفضاء الرحب وقت تشاء. الفن ينتشلك من المقعد الخلفي، من المقعد الأمامي، ويجلسك خلف المقود، فتختار اتجاهاتك أو تشق طريقاً.
الفن يمنعك من أن تشيخ، تتجعد، تترهل، تتقوس، تنكمش، تتآكل، تتلاشى، تصاب بالتخمة، بالجوع، بالشره، بالنقرس، بالسوس، وبالقرف. الفن يبقيك حيا.. ما دمت حيا، وبعد أن تموت.
كنت أفكر بكل ذلك وأنا أتجول في أنحاء معرض للتحف الفنية الأثرية القادمة من أفريقيا، حين استوقفت صاحب المعرض، وهو رجل أفريقي سمين، وسألته “ألا تعتبر هذه التحف التي تعود لمئات السنين، إرثاً حضارياً للبلدان الآتية منها، ومن غير الجائز بيعها، ألست ببيعك لها تبيع تاريخ البلد؟”، ضحك الرجل العارف وضرب على بطنه قائلاً “الناس في أفريقيا يا صديقتي تحتاج أن تأكل، من يهتم بالفن!”. كدت أواصل الجدل حول أهمية الفن بغض النظر عن بؤس الأماكن، لولا وجع مفاجئ أصابني في ظهري، فجلست على أقرب مقعد، وهو يواصل حديثه وتعريفي بقيمة تلك التحفة وجمالية الأخرى، كان الألم يشتت انتباهي. فقلت، إذا كان ألم مؤقت، ربما بسبب الإرهاق، أعماني عن مواصلة التمتع بفكرة الفن المختزلة في تلك التحف، فكيف نتوقع من شعوب يعصرها الألم بسبب الجوع، أن تحتفظ بتحفها في حين يمكنها بيعها لتحسين ظروف حياتها. صحيح أن الفن الجميل غذاء للروح، لكن فقط للروح في الجسد المرتاح الشبعان.
Mariam_alsaedi@hotmail.com