في أوائل تسعينيات القرن الماضي، حلَّ واحد من أبناء الشيخ زايد ضيفاً على زميل له في دولة عربية، كانت هذه الدولة تعاني أزمة اقتصادية خانقة، وفقر واضحاً يعاني منه كثير من شعبها. وفي تلك الأمسية، أقام المُضيف وليمة عشاء على شرف الشيخ الشاب، ولكن الشيخ اشترط ألا يُكشف عن اسمه لأي من الحضور، حتى يشعر بالراحة، وحتى لا يضطر الآخرون إلى الانقباض والاحتشام حداً يمنعهم من التبسط، إلا أن مسار الحديث وتبادل الحكايات أخذ مساراً آخر، حين قدم نفسَه على أنه إماراتي مكتفياً بالاسم الأول واسم القبيلة. فانخرط الحضور لحظتها في سرد كل ما يعرفونه من مآثر المرحوم المؤسس الشيخ زايد، كان حشداً من الحكايات والأمنيات والدعاء والحب لمقامه. لحظتها تقدم أحدهم ووجه حديثه إلى الشيخ الشاب وقال له: «كم نتمنى أن نستبدل الشيخ زايد برئيسنا، ألا تمنحوننا إياه ولو عاماً واحداً، ربما تكون سنة خير وبركة علينا، وبعدها يمكنكم استعادته؟». لم يتمالك الشيخ الابن نفسه فضحك، وفي لحظة من النشوة وتحت تأثير العاطفة انهزم صاحبه المضيف وأعلن أن هذا الضيف ليس إلا واحداً من أبناء الشيخ زايد. ربما تكون هذه واحدة من عشرات أو مئات القصص التي نقرأ عنها أو تُحكى لنا أو نكون شهوداً عليها، وهي تعني شيئاً واحداً أن العرب في النصف الثاني من القرن العشرين لم يعرفوا قائداً وأباً ورئيس دولة وشيخاً حاكماً كما كان الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان. فقد عرف العالم العربي حكاماً عاديين، وآخرين باهتين، ورؤساء محبوبين، وملوكاً أدمع فراقهم المآقي، وعرف أيضاً مغامرين سياسيين، وبائعي شعارات، يتحدرون من خلفيات اجتماعية متنوعة، وتحصيل علمي متفاوت. ولكن زايد كان استثناء، بأصالته ونقائه، وتربيته، حيث كان ابن الصحراء بامتياز، تتجسد فيه جماع شيم العرب ونبالتهم. إنه يكاد يكون القائد الأكثر انسجاماً مع بيئته، ليس فقط مع أبناء القبائل وحكام الإمارات الذين حفوا به وآمنوا به وبايعوه رئيساً، وليس فقط مع شعبه ومواطنيه الذين رأوا فيه أباً وملاذاً، وإنما كان الأكثر انسجاماً مع الأرض والماء والشجر والهواء، والأوفى عهداً مع الصحراء ولهيبها، مع النخلة والنبات، ومع السواقي وخريرها، مع كل شيء كان يتناوحه ويحيط به. يدرك ألم الإنسان، كما يشعر بأنين الأرض وعطشها، وجدبها، وشحوبة أديمها، لهذا كان قلباً أخضر يعشق الخضرة، وأدرك بحسه المرهف انكسار الحيوان الذي يقتات من حشائشها ويرتاد مراعيها، وتلك الأنواع الآيلة للانقراض والفناء، فشملها برعايته. تختزل سحنته المعروفة، ومحياه العربي الأرومة كل أسرار جزيرة العرب وآلامها وأفراحها ومخاوفه، وأيضاً انبعاثها وفخرها. كان أكثر من حاكم سياسي، أو رئيس اتحاد لسبع إمارات، همه الأول والأخير الحفاظ على التوافق، وصمود الكيان، وتجاوز الخلافات التي قد تعصف لسبب من الأسباب، فقد كان أباً لرعيته، وأخاً ورُبَّاناً ماهراً، يقود سفينة البلاد بين أمواج متلاطمة، وأطماع لا تخبو، ونزوات لا يمكن التنبؤ بها، وكان الجار الصادق الذي لا يطعن في الظهر، ولا يخل بوعده، ولا يخون عهده، ولا يتحين الفرص متربصاً ضعفاً أو عدم استقرار في حليف له. بل كان الشيخ زايد طوال سنوات حكمه ركناً يأوي إليه كل من شعر بالقلق، أو غدر به الزمن، أو من احتاج نصيحة وطلب مشورة من الرؤساء والشيوخ والملوك العربِ وغيرهم. في لحظة العرب البائسة هذه، وفي وقت لا نكاد نجد قائداً بمثل صفات الراحل العظيم، تحتفل الإمارات العربية المتحدة بعام الشيخ زايد، ويفتتح اليوم صرح الشيخ زايد في العاصمة أبوظبي. له ومن أجله ولذكراه الطيبة، فليكن عاماً من الأمن والسلام والطمأنينة.