التفاعل غير المسبوق مع الحملة التي انطلقت في 25 أغسطس 2024 ضد ما يُعرف بـ «الذباب الإلكتروني»، والنتائج المذهلة التي تحققت، يعكسان الرغبة الصادقة لدى المجتمعات العربية والخليجية في مواجهة الحسابات الوهمية واستئصالها، لأنها باتت تهديداً مباشراً للتماسك الاجتماعي وسلامة الفضاء الرقمي، خاصة وأنها تروِّج لمواضيع تثير التشكيك وتنشر صوراً وأفكاراً تَبثّ التفرقة.

أرقام قياسية حققتها الحملة، إذ تصدّر هاشتاق «تبليك_بدون_تعليق» قائمة «ترند» الموضوعات الأكثر تداولاً في مواقع التواصل الاجتماعي لمدة أيام، متجاوزاً 32 مليون تداولٍ خلال أيامه الأولى فقط، وما زال الرقم في تزايد مستمر، ما يشير بوضوح إلى قوة الحملة وزخم التفاعل من الإعلاميين والمغرّدين من شتى دول العالم، الذين تكاتفت جهودهم لنشر الوعي حول كيفية مواجهة الذباب الإلكتروني واستئصاله من الفضاء الرقمي. لم تقتصر المواجهة على الجهات الرسمية أو الشخصيات المؤثرة، بل تحولت في غضون أسبوع، إلى جهد مجتمعي شامل شارك فيه الجميع ومن كل أطياف المجتمع، يتصدرهم إعلاميون ومغردون، ما يشير بجلاء إلى أن الوقوف في وجه هذه الحسابات أمر ليس بالصعب بل هو سهل وممكن.

والآن، نستطيع القول بأن الحملة ضد الذباب الإلكتروني لم تعد مجرد تحرك عابر، بل أصبحت رمزاً لرغبة المجتمع في الحفاظ على وحدة صفه وحمايته من محاولات التفرق، بعد أن تحول هذا «الذباب» إلى أداة رئيسية لخلق الأكاذيب وتشتيت المجتمعات وخلق الانقسامات، مستفيداً من التكنولوجيا الحديثة لإدارة منصات التواصل الاجتماعي والتأثير على الرأي العام، معتمداً على مجموعة من الأدوات التقنية المتقدمة في جذب الانتباه والتأثير على الجمهور. ولعل أبرز هذه الأدوات: الخوارزميات المتقدمة، التي تقوم بزيادة ظهور المحتويات المثيرة للعواطف، مثل الغضب أو الخوف، بهدف تعزيز التفاعل مع المحتوى المضلِّل، وهنا يكمن خطر هذا النوع من المحتوى الذي يصل إلى جمهور واسع، حتى لو كانت الأغلبية لا تتفق مع الرسالة المرسلة. كما أن الحسابات المضللة تستخدم ما يعرف بـ «غرف الصدى» (Echo Chambers)، وهي بيئات رقمية مغلقة يتم فيها تضخيم وتكرار الأفكار والآراء نفسها، ما قد يجعل المستخدِمين يشعرون بأن هذه الأفكار تمثل الرأي العام، على رغم أن الحقيقة قد تكون مختلفة تماماً. ومن أبرز ما يستخدمه الذباب الإلكتروني هو ما يسمى بـ «التصيُّد العاطفي»، حيث يتم إنشاء محتويات ذات طابع عاطفي قوي لجذب انتباه الجمهور من خلال العناوين المثيرة والصور العاطفية، الأمر الذي يؤدي إلى مشاركة المحتويات دون التأكد من صحتها، ما يسهم في انتشار الشائعات بسرعة. وإضافة لذلك كله، تستخدم هذه الحسابات الروبوتات الإلكترونية (Bots) بشكل واسع في إعادة نشر التغريدات والمقالات، ما قد يجعل المحتويات الكاذبة تبدو وكأنها حقيقية نظراً لتكرارها وانتشارها الواسع على المنصات المختلفة. وفي مواجهة التوظيف الماكر لهذه الأدوات المتطورة، جاءت مبادرة «تبليك_بدون_تعليق» كوسيلة فعالة للتعامل مع الذباب الإلكتروني، حيث تكمن الفكرة الأساسية لهذه المبادرة في حظر الحسابات الوهمية أو المضلِّلة دون التفاعل معها. وبدلاً من الدخول في مناقشات عقيمة أو إعطاء هذه الحسابات فرصة للانتشار، يمكن للمستخدم ببساطة استخدام خيار الحظر للتخلص من هذه الحسابات دون ترك أي تعليق.

وتكمن الغاية من هذه المبادرة في تقليل الانتشار العضوي للمحتويات المضلِّلة، حيث إن أي تفاعل، حتى لو كان نقدياً، يُسهم في تعزيز ظهور المحتوى المضلِّل وزيادة انتشاره بين المستخدمين، بينما «الحظر الصامت» أصبح أداة فعّالة في الحد من تأثير الذباب الإلكتروني. وللمساهمة بفعالية في هذه الحملة، هناك بعض الخطوات التي يمكن اتباعها، منها: التعرف على الحسابات المضللة، حيث يمكن التمييز بين الحسابات التي تسعى لنشر الفوضى من خلال أنماط التكرار المفرِط للرسائل المضلِّلة والمحتويات المثيرة للعواطف.

إضافة لذلك، يمكن استخدام خيار الحظر (Block)، إذ بمجرد التعرف على الحسابات الوهمية أو المضللة، ينبغي حظرها مباشرةً دون التفاعل معها، لضمان عدم انتشار محتواها بشكل أكبر. كما نوصي بتجنب التفاعل أو الرد أو الإشهار مع هذه الحسابات لأن ذلك يزيد من ظهور محتواها للمستخدمين الآخرين، ولذا يجب تجنب التفاعل نهائياً مع منشوراتها. كما نحث على التبليغ عن الحسابات المضللة، وفي حال كانت هذه الحسابات تنشر معلومات ضارة أو تنتهك سياسات المنصات، يمكن التبليغ عنها لضمان اتخاذ الإجراءات المناسبة ضدها.

وختاماً، نرى أن أبرز ما أثبتته الحملة هو أن الجهود الجماعية يمكن أن تُحدث تغييراً حقيقياً في فضاء الإنترنت، وأنه وبدعم مستمر من القيادة الرشيدة ومن الإعلاميين والمغرّدين والمجتمع ككل، يمكننا مواجهة هذه الظاهرة وحماية أنفسنا ومجتمعاتنا من التأثيرات السلبية للذباب الإلكتروني. فالحملة ليست مجرد معركة ضد الحسابات الوهمية، بل هي معركة للحفاظ على النزاهة والوعي في الفضاء الرقمي.

*رئيس المكتب الوطني للإعلام.