ظهر قبل الإسلام تعبير «أهل الله»(الأزرقيّ، أخبار مكة)، ومع تبلور المذاهب الإسلاميَّة برز مرادفه «الفرقة النَّاجيَّة»، وحديثاً طلع علينا «مشروع السماء»، شاهدنا كتاب «المرجعيَّة الدِّينيَّة: مشروع السماء في زمن الغيبة». لا أناقش المشروع، لأنه مشروع الله، ومن يناقشه جعل نفسه خصماً لصاحبه، شأنه شأن «حزب الله».
لقد أُغفلت المقولة المُثلَى: «الاختلافُ رَحمةٌ». لا ندري هل تمعنها مؤلف الكتاب أم لا، وكأن أول مبرزيها «إخوان الصّفا»(الرَّابع الهجري)، ثم تلقفها فقهاء، إلا أنَّ العمل بها فعلاً، على مدى تاريخ المذاهب، ليس بمستوى تداولها قولاً. مع أنْها ليست غريبة عن التُّراث القديم، فقد جرت على لسان شاعر.
شاع قبل الإسلام البيت التَّالي، واستشهدتُ به لمرات شغفاً بلفظه ومعناه: «نحن بما عندنا وأنتَ بما عن/ دك راضٍ والرَّأي مختلفُ»(الجاحظ، البيان والتبيين)، وبغض النَّظر عن المناسبة، يُخبرنا البيت بقبول الرَّأي المختلف مبكراً. قاله عمرو بن امرئ القيس(جاهليّ)، وقيل لغيره. لم نجد عند مؤرخي البيت الأولين، تفسيراً على أنّ معناه القبول بالآخر، إنما قصد الاعتصام بالرَّأي.
لكنْ نجد في القرآن ثلاث آيات واضحات جاهرات، في أنَّ الاختلاف هو «مشروع السَّماء»، لا مشروع مذهب مِن صنعة الرّجال، يخطئون ويُصيبون: «لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً»(المائدة: 48)، «وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِي مَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ»(يونس: 19)، «وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ»(هود: 118).
لم ينل «النَّاسخ والمنسوخ» هذه الآيات بآية السّيف وغيرها، والمعنى ليست بين ما عُطل من آيات المسامحة(البغدادي، النَّاسخ والمنسوخ، وابن حزم، النّاسخ والمنسوخ). ناهيك عمَّا اعتبروه منسوخاً جزافاً، ويقرُ الاختلاف شرعةً: «إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ»(الحج: 17)، ومثلها ورد في «البقرة»: 62، و«المائدة»: 69، فهذا هو مشروع السَّماء واضح، لا يقبل تأويلاً.
نقرأ مقولة «اختلاف العلماء رحمة» في التّراث الفلسفيّ(إخوان الصّفا، الرسالة الأولى في الآراء والديانات)، وجاءت كتاباً «رحمة الأمة في اختلاف الأئمة» لمحمد العُثمانيّ(ت: 780 هجرية)، ولمحمد الحفنيّ(ت: 1181هجرية): «رسالة في قول النَّبيّ اختلاف أمتي رحمة». كما وردت «اختلاف أمتي رحمة» حديثاً (السِّيوطي، جامع الأحاديث).
على أرض الواقع، صَنف محمّد بن جرير الطّبريّ(ت: 310 هجرية) «اختلاف الفقهاء»، وبسببه اضطر ملازمة داره، ولما مات دُفن خفيةً، لمطاردته مِن قِبل حنابلة بغداد(مسكويه، تجارب الأُمم)، ثم جاءت بعده كتب بعنوان الاختلاف.
حسب ما تقدم، يكون الاختلاف بين المذاهب بريئاً مِن التزمت، ذلك إذا أُخذ بقول الفقيه سُفيان الثّوريّ (ت: 161 هجرية): «إنما العِلم عندنا الرّخصة مِن ثقةٍ، فأمَّا التّشدد فيُحسنه كلُّ أحدٍ»(ابن عبد البرِّ، مختصر جامع بيان العِلم).
نعرف أنَّ الثَّوريَ قصد علوم الدّين، وهذه هي المشكلة اليوم، فالنّزاع بين المذاهب، والسباق على الكسب، للمسلمين وغيرهم، في ظل قحم الدِّين في الحزبيّة، أصبح محفوفاً بالمخاطر، فلا تبقى رحمة في الاختلاف، وقد قيل «الاختلاف رحمة»، ومعلوم أنَّ قصد الكسب المذهبيّ السّطوة، وما درجة خطورتها إذا اعتبر كلّ مذهب مقالاته «مشروع السَّماء»؟
أقول: إذا كان القائلون بالحاكميّة، وهو «مشروع السَّماء» نفسه، فبم فسر هؤلاء آيات الاختلاف، وهنّ باعتقادهم نازلات مِن السَّماء، ولا حِجُّة، إذا كانوا ينظرون إليها وفق «الناسخ والمنسوخ»، فلسنَ مِن المنسوخات، وحسب الآيات المذكورات يكون مشروع السّماء: الاختلاف رحمة، لا مقالات مذهب بعينه.
ختاماً، أياً من المراجع يمثل «مشروع السّماء»، فهم كثرٌ: الولاية الكبرى (السُلطة السّياسيَّة) أم الوسطى (السياسة دون السلطة) أو(الحُسبية) الصُّغرى (الصّغير، أساطين المرجعيَّة العليا)؟!
*كاتب عراقي