خلق الله الناس جميعاً من نفس واحدة، ولكنه سبحانه وتعالى خلقهم مختلفين، ولذلك سيبقى الناس مختلفين حتى يوم الدين. لكن ما هي عوامل الاختلاف؟ وما هي منطلقاته التكوينية؟ حاول علماء كثيرون البحثَ عن جواب لهذا السؤال، ومنهم العالمة الأميركية «هيلين فيشر» التي توفيت هذا العام. فقد اهتمّت الدكتورة «فيشر» بدراسة الدماغ، واختارت لذلك شخصياتٍ مِن بيئات مختلفة، نساءً ورجالاً. وانتهت إلى وضع التصنيف التالي للشخصية الإنسانية: الاستكشافيون، البناؤون، الإداريون، الحواريون. وجدت الدكتورة فيشر في أدمغة الاستكشافيين نسبةً عاليةً من سائل «الدوبامين»، وهو سائل تفرزه خلايا الدماغ لمساعدة الإنسان على الذهاب إلى أبعد من ذاته بحثاً عن المجهول من المعارف والمعلومات.

ووجدت في البنّائين نسبةً عاليةً مِن سائل «السيرونيم» الذي يساعد الإنسان على الإلهام والتصوّر، وعلى الغوص في عوالم مختلفة بحثاً عن معارف استكشاف الآفاق. ووجدت في الإداريين نسبةً عالية من «التستيرون» الذي يعزّز قوة المنطق لدى الإنسان، كما يعزّز مِن ثقته بنفسه ومن قدراته التنافسية. أما في الحواريين، فقد وجدت نسبةً عالية من «الاستروجين» الذي يعزّز رغبة الإنسان في الاحتواء و«تدوير الزوايا»، وكذلك تقديم المساعدة والدعم. كل هذه المكوّنات من السوائل المميزة موجودة في دماغ كل إنسان، ولكن بنِسب متفاوتة. وباختلاف هذه النسب، تختلف طبائع الشخصيات وتتعدّد كفاءاتها واهتماماتها، وتتمركز إبداعاتها.

ويشكل التباين في نسبة وجود هذه العناصر في الدماغ قاعدةَ الاختلاف بين الناس الذين خلقهم الله سبحانه وتعالى عليها. وكما قال الفيلسوف وعالم النفس النمساوي فرويد فإنه مهما كان الاختلاف بين الناس قليلاً، فإنه يحتلّ الموقعَ الأساس في الشخصية الإنسانية. ولعل من أهم ما اكتشفته العالمة الأميركية هيلين فيشر هو أن كل هذه العوامل الصانعة للشخصية موجودة في دماغ كل إنسان، لكن بنسب متفاوتة، وأن في هذا التفاوت النسبي يكمن سرّ التباين والاختلاف بين الناس، كما تقوم عليه قاعدة التعدد والتنوع، والتي هي موجودة حتى بين التوائم. وتقدم الدكتورة فيشر مثلاً على ذلك التباين بينها وبين شقيقتها التوأم!

وفي الأدبيات الفلسفية للفيلسوف اليوناني أفلاطون دراسة حول «الحب»، حاول من خلالها الإجابة على السؤال التالي: لماذا تتمركز عاطفة المحبّ على شخص محدّد؟ وكيف يعمل العقل على هذا التمركز؟

في عهد أفلاطون، لم يكن العلمُ قد أدرك وجودَ هذه الأنواع من السوائل الصانعة للشخصية الإنسانية ولأسباب التنوع والاختلاف بين الناس، ولذا لم يدرك معاصرو أفلاطون من العلماء مدى الانعكاسات التي يفرضها الاختلاف في تعدّد هذه السوائل وفي نسبها وفي دورها في توليد المشاعر وتعدد الاهتمامات والتوجهات والخيارات، وبصورة أساسية في تركيب الشخصيات وفي بلورة الهويات الفردية.يذكر الله سبحانه وتعالى في محكم كتابه العزيز أنه «خلق الإنسانَ في أحسن تقويم»، وهذا التقويم الأحسن للذات الإنسانية تحتاج معرفتُه إلى استجابة الإنسان لدعوة الله للتفكّر فيما خلق. وهذا دور العلماء الاختصاصيين، وهو ما قامت به من حيث لا تدري العالمة الأميركية الدكتورة فيشر. لقد أثبتت الوقائع أنه مع تعمّق الإنسان في معرفة ذاته، وفي معرفة الكون من حوله، يزداد إيماناً بالله الخالق المبدع.

*كاتب لبناني