الأسبوع الماضي، سلّم الرئيسُ الفرنسي إيمانويل ماكرون حبل المشنقة لليمين المتشدد في البلاد، وهو تيار يحركه التعصب، ومكّنه شنق حكومته متى شاء. ماكرون، الذي حشر نفسه في زاوية من صنع يديه، عيّن رئيس وزراء جديداً سيعتمد بقاؤه، وبقاء حكومته، على دعم «التجمع الوطني» بزعامة مارين لوبان، وهو حزب يشتهر برفض التنوع الثقافي القوي لفرنسا. ذلك أنه في حال أمرت لوبان كتلتها البرلمانية بسحب دعمها المؤقت والتصويت بحجب الثقة عن الحكومة الجديدة لرئيس الوزراء ميشيل بارنييه، وهو من الشخصيات المحافظة ووزير خارجية سابق، فإن الحكومة ستنهار على الفور. (يذكر هنا أن مجموعة كبيرة من الأحزاب اليسارية تعارضها أصلاً). وقد أشار ثلاثة أرباع الفرنسيين الذين تم استطلاع رأيهم بعد تعيين بارنييه إلى أنهم يتوقعون سقوط الحكومة قريباً. بالنسبة لفرنسا، هذا يعني أن حزباً يحمل رسالة معادية للأجانب بات يتمتع الآن بما يرقى إلى «الفيتو» على الحكومة وقراراتها.

وهذا تحولٌ دراماتيكي في الأحداث. ذلك أن ماكرون لطالما آمن بأن مهمته الأكثر استعجالاً، والتي تُعتبر بالغة الأهمية لتركته السياسية، هي الحؤول دون صعود اليمين المتشدد. ولئن لم يسلِّم السلطة بشكل مباشر إلى «التجمع الوطني»، فإن الترتيب الجديد يميل نحو تقاسم السلطة. وهذا النفوذ الجديد لليمين الفرنسي المتشدد قد يؤدي إلى تسريع انزلاق أوروبا نحو نموذج معاد للمهاجرين ومشكك في مشروع الوحدة الأوروبي في قارةٍ بدأت تميل إلى هذا الاتجاه منذ سنوات. وتُعد فرنسا سابع أكبر اقتصاد في العالم وأحد الأعضاء الخمسة الدائمين في مجلس الأمن الدولي، وتمتلك أحد أكثر الجيوش الغربية قوة. ولكن تقودها الآن الحكومةُ الأكثر افتقاراً للاستقرار على صعيد القوى الصناعية الكبرى.

ماكرون كان المحرض على هذه الصفقة، ولكن ما يسمى بمعتدلي اليسار واليمين في فرنسا يتقاسمون المسؤولية. ذلك أنهم لو وافقوا على تقديم تنازلات عقب الانتخابات التي جرت قبل شهرين، لاستطاعوا الانضمام إلى كتلة ماكرون في ائتلاف وسطي واسع النطاق وراء حكومة جديدة، وهذا ما كان سيفضله الرئيس. ولكن كلا الفريقين رفضاً. وبالنظر إلى انقسام البرلمان، اضطر ماكرون حينها إلى اختيار رئيس وزراء مدعوم من جانب واحد فقط، إلى جانب حلفائه الأكثر تطرفاً. وفي النهاية، وقع اختياره على اليمين بتعيين بارنييه، 73 عاماً، وهو رجل دولة فرنسي مخضرم سبق له أن شغل منصب كبير مفاوضي الاتحاد الأوروبي في مفاوضات «بريكست».

ووفقاً لوسائل الإعلام الفرنسية، فإن الرئيس سعى للحصول على تطمينات من لوبان بأنها لن تدعو فوراً إلى تصويت بحجب الثقة لإسقاط الحكومة الجديدة. ولكن حزبها «التجمع الوطني» أشار إلى أنه سيُبقي الحكومة رهينةً لأجندته المتشددة -- والتي تشمل، على الأرجح، حملة شعواء ضد الهجرة، إذ قالت لوبان يوم الأحد: «إذا ما تم نسيان الفرنسيين مرة أخرى أو إساءة معاملتهم، فإننا لن نتردد في ممارسة الرقابة على الحكومة». وفي الوقت الراهن، حصل ماكرون على بعض الحماية للإصلاح الذي مرّره بشق الأنفس بخصوص رفع سن التقاعد في فرنسا من 62 عاماً إلى 64 عاماً، وهو ما دعمه بارنييه. وهذا يضع نظام المعاشات التقاعدية في البلاد، والمالية على المدى الطويل، في وضع أكثر قوة وثباتا. وكان ماكرون أطلق هذه الدراما حينما حلّ البرلمان في يونيو ودعا إلى انتخابات جديدة بعد الأداء القوي الذي حققه «التجمع الوطني» في انتخابات البرلمان الأوروبي.

ولكن تلك كانت مجازفة لا داعي لها، سعياً وراء ما أسماه ماكرون «أغلبية واضحة». فانتهى به الأمر إلى العكس: برلمان معلَّق ومنقسم بين فصائل اليسار واليمين والوسط، وحيث حزب لوبان هو الأكبر، وهو ما أدى إلى شلل سياسي، خلال فصل الصيف، تولت إدارة البلاد خلاله حكومةُ تصريف أعمال مؤلفة من وزراء سابقين. المستفيد الوحيد المحتمل من هذه الفوضى هو لوبان التي تعدّ العدة لحملة رئاسية، هي الثالثة لها، في 2027. وبعد أن مُنحت دور «صانع الملوك» في اختيار حكومة ماكرون الجديدة، والآن باعتبارها ضامن بقائها، حصلت لوبان على مؤهِّل تطمح لطالما طمحت إليه، ألا وهو: القبول. وهي سلعة لا تقدر بثمن بالنسبة لزعيمة حركة أسّسها متعاطفون مع حكومة «فيشي» النازية العميلة في الحرب العالمية الثانية. ومن بينهم والدها، جان ماري لوبان المدان بإنكار الهولوكوست.

مارين لوبان حاولت إزالة السموم من جسم الحزب عبر طرد المعادين للسامية وتبني القضايا اليومية مثل غلاء المعيشة. وكان هدفها هو كسر جدار الحماية الذي أقامته أحزاب التيار الرئيس الفرنسي لإبقاء «التجمع الوطني» خارج السلطة. ولكن الآن يمكن القول إن ماكرون لم يسمح فقط بصدع في جدار الحماية وإنما بخرق مفتوح بسبب قراره المتسرع بخلط الأوراق السياسية في الوقت الذي لم تكن فيه ضرورة لذلك. وإذا كانت الكيفية التي ستستخدم لوبان هذا النفوذ -- عبر الضغط في اتجاه أجندة حزبها الشعبوية اليمينية أو عبر التمسك بالوسط -- ستتضح أكثر خلال الأشهر المقبلة، فإن الأمر الاستثنائي هو أنه بعد سنوات من التهميش، أصبح اليمينُ الفرنسي المتشدد الآن يحكم قبضته على سياسات الحكومة ومستقبل البلاد.

*كاتب أميركي مقيم في باريس.

ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست لايسنسينج آند سيندكيشن»