يخرج لبنان من الحرب مع إسرائيل مدمّراً. ما خرجت دولة من حرب مزدهرة. كل الحروب تنتهي بكوارث إنسانية. يستوي في ذلك طرفا الحرب. ولذا لم تكن الحرب حلاً لمشكلة، بل كانت دائماً مشكلة بحدّ ذاتها، وكانت دائماً ولاّدة لمشاكل إنسانية متداخلة. بعد أن وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها، استمرت معاناة الشعوب التي تحاربت لعقود عديدة.
وقعت شعوب أوروبا بين فكي المجاعة. انتشرت الأمراض في أوروبا وآسيا، وتضخّمت أعداد المهجّرين الذين ما كانوا يجدون سقفاً يأوون إليه. حتى إن شعوباً عديدة كادت تفقد الأمل في إعادة بناء الدولة أو في إعادة تكوين مجتمعاتها الممزقة والمشتتة. كان المهجرون من كل الدول يهيمون على غير هدًى.
أفلست بريطانيا وهي منتصرة، واضطر الألمان أن يشربوا (مثل أهل غزة اليوم) مياهاً ملوثة بالجثث. حتى إن اليابان، التي تعيش على التجارة الخارجية استيراداً (للمواد الغذائية والمواد الخام) وتصديراً (للمنتجات الصناعية)، فقدت 80 بالمائة من أسطولها البحري التجاري. وفُرض نظام تقنين المواد الغذائية في دول الحرب، ومن ذلك مثلاً أن فرنسا اعتمدت نظام البيضة الواحدة للشخص الواحد في الأسبوع الواحد. وفي اليابان، تنازل الإمبراطور هيروهيتو عن قدسيته تنفيذاً لأمر من الجنرال الأميركي ماك آرثر.
ما كان للإمبراطور أن يبقى مقدّساً بعد القنبلتين النوويتين اللتين ألقتهما الولايات المتحدة على هيروشيما وناكازاكي، فالموت الجماعي قضى على كل المقدسات المصطنعة. ونتيجة لتداعيات الحرب العالمية الثانية، والتي كانت استمراراً للأولى وما بعدها، انفجرت حروب داخلية (أهلية) خاصة في آسيا (الصين) حيث ذهب الملايين ضحية لها، وفي أوروبا (اليونان)، وارتفع ما سماه تشرشل «الستار الحديدي» الذي عزل شرق أوروبا عن غربها.. ثم انتصب جدار برلين وقام حلف شمال الأطلسي بقيادة الولايات المتحدة في مواجهة حلف وارسو بقيادة الاتحاد السوفييتي، ليعيش العالم من جديد دوامةً أخرى من حروب متواصلة ومتداخلة لا تنتهي.
سقط جدار برلين، لكن جدران الكراهية لم تسقط.. بل لعلها ازدادت كثافة وارتفاعاً. واليوم يقف العالم من جديد على قاب قوسين أو أدنى من انفجار جديد. قد تكون الشرارة قد انطلقت فعلاً من أوكرانيا.. وكاد لبنان وغزة يشعلان تلك الشرارة. فلا الحرب على غزة، ولا الحرب على لبنان، بنتائجهما الإنسانية المفجعة، ذكّرت العالم بالحقيقة الثابتة بأن الحرب ليست حلاً، ما كانت ولن تكون، وإنها ليست أداة للحلّ، وإنما مشكلة في حدّ ذاتها، بل المأساة متجسّدةً. منذ أكثر من عقدين من الزمن، قُدّرت الفعالية النووية للدول الخمس الكبرى (أميركا – روسيا – فرنسا – بريطانيا – الصين) بقدرتها على قتل كل إنسان على سطح الكرة الأرضية تسع مرات. الآن تضاعفت هذه القدرة بانضمام دول ثلاث أخرى إلى هذا النادي النووي، هي الهند وباكستان وإسرائيل. وكادت إسرائيل تلجأ إلى السلاح النووي في عام 1973 إثر هزيمتها في حرب رمضان، فكان الجسر الجوي العسكري الأميركي، وكان الدفرسوار، ومن ثم سقوط الجولان في الجبهة السورية. الآن، ومع تطور الصناعة العسكرية النووية، تضاعفت القدرة على القتل الجماعي للبشر. فالولايات المتحدة استحدثت برنامجاً نووياً جديداً (أوهايو) يتمتع بقدرة نووية تبلغ ما يعادل 1266 قنبلة نووية من حجم القنبلة التي ألقيت على هيروشيما في اليابان.
وتملك الولايات المتحدة الآن 14 وحدة من هذا النظام النووي، أي ما يعادل 17724 قنبلة نووية. وفي الوقت ذاته تخصّص 2 تريليون دولار لتطوير ولتحديث ترسانتها النووية. وهو أمر ليس خاصاً بها، فالدول النووية الأخرى تقوم بالعمل ذاته. وكأن الإنسانية لم تتعلّم من دروس الماضي ومآسيه، بل وحتى من مآسي الحاضر (لبنان وغزة وأوكرانياً مثلاً). هناك مسافة شاسعة بين روحانيات «وثيقة الأخوّة الإنسانية» التي وُلدت في أبوظبي على يدي البابا فرنسيس والإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيّب، وبين خنادق الدم في غزة ولبنان، وما تؤشر إليه من مخاطر ترسانات الأسلحة النووية، التي تتوالد عدداً وقوةً تدميرية. العالم يحتاج إلى المزيد من الأخوّة الإنسانية، وليس إلى المزيد من القوة التدميرية.
*كاتب لبناني