شهد العقد الأخير بروزاً لافتاً لتيارات اليمين المتشدد في أوروبا، حيث استطاعت هذه التيارات السياسية تحقيق نجاحات ملحوظة في استغلال المخاوف الاجتماعية والاقتصادية. إذ قادت مارين لوبان في فرنسا حزب التجمع الوطني إلى تعزيز تأثيره السياسي، فيما أصبحت جورجا ميلوني في إيطاليا أول رئيسة وزراء ذات توجه يميني متشدد، لكنها تبنت نهجاً أكثر براغماتية بعد وصولها إلى الحكم. وفي ألمانيا، أظهر حزب «البديل من أجل ألمانيا» قوته عبر توسيع قاعدته الانتخابية، بينما برز جيمي أوكيسون في السويد بتحويل حزبه إلى قوة سياسية مؤثرة.
وفي المملكة المتحدة، يعكس صعود حزب «الإصلاح» بقيادة نايجل فاراج تقدماً غير مسبوق لليمين المتشدد. ذكرت صحيفة «الإكسبرس» أن الحزب قد تعادل مع حزب «العمال» الحاكم في استطلاع رأي جديد أجرته مؤسسة «FindOutNowUK»، حيث حصل كل منهما على نسبة 25% من التأييد الشعبي، ما يعكس تحولاً كبيراً في التوجه السياسي البريطاني. ويمثل هذا الصعود تحدياً أمنياً يتطلب استجابة استراتيجية. وعليه، يناقش هذا المقال العوامل المؤدية لصعود اليمين المتشدد في المملكة المتحدة وتأثيره على الأمن الوطني.
جاء صعود اليمين المتشدد نتيجة عوامل متداخلة، أبرزها التفاوت الاقتصادي المتزايد منذ الأزمة المالية لعام 2008، ما أدى إلى فقدان الثقة في النخب السياسية. كما شكلت قضية الهجرة والسيادة محوراً رئيسياً، خاصة خلال استفتاء خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي عام 2016. فاستغل فاراج المخاوف بشأن فقدان السيطرة على الحدود، ما عزز النزعة القومية. إضافة إلى ذلك، ساعدت وسائل التواصل الاجتماعي في تمكين اليمين المتشدد من نشر حملات تأثير استراتيجي ضمن حرب معلوماتية تستهدف الفئات المهمشة، ما أدى إلى تعزيز قاعدة الدعم الشعبي لهذه الحركات. كما استغلت هذه الحركات تصاعد معدلات عزوف الشباب عن التعليم والعمل في المملكة المتحدة والتي بلغت 13.2% في عام 2024، لترويج سردية فقدان الفرص الاقتصادية بسبب الهجرة، ما عزز العداء تجاه الأجانب.
يشكل صعود اليمين المتشدد تهديداً متعدد الأبعاد للأمن الوطني، حيث يفاقم الاستقطاب المجتمعي ويضعف المرونة الأمنية للدولة. ولقد أدى استخدام منصات التواصل الاجتماعي أداةً للحرب المعلوماتية إلى استغلال التطرف اليميني في عمليات التأثير التي تستهدف إعادة تشكيل الرأي العام وتقويض الثقة بالمؤسسات الديمقراطية. ورغم الترويج لخروج بريطانيا على أنه خطوة نحو الاستقلال الاستراتيجي، إلا أن تزايد التهديدات الداخلية كشف أهمية التعاون الأمني والاستخباراتي في مواجهة التحديات العابرة للحدود.
وفقاً لموقع «gov.uk»، سجل عام 2023 أعلى معدل لجرائم الكراهية في تاريخ المملكة المتحدة، حيث بلغت 145214 جريمة. رغم انخفاض إجمالي جرائم الكراهية بنسبة 5% في 2024، إلا أن الجرائم الدينية شهدت زيادة بنسبة 25%، مع تصاعد الاعتداءات على المجتمعات اليهودية والمسلمة. وفي عام 2025، استمرت هذه الجرائم في الارتفاع، مدفوعة بالأحداث الجيوسياسية الأخيرة. أشار تقرير لمنظمة «Anti-Defamation League» إلى أن المشاعر العدائية تجاه الأقليات الدينية بلغت مستويات قياسية عالمياً، مع تصاعد هذه الظاهرة داخل المملكة المتحدة. علاوة على ذلك، يهدد تصاعد التطرف تماسك المجتمع البريطاني، حيث تسهم الهجمات الطائفية في تقويض الثقة بالمؤسسات الأمنية وتغذية دوائر العنف المتبادل. كما أن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي جعل التعاون الاستخباراتي أكثر تعقيداً، ما فرض تحديات إضافية على الأمن الداخلي.
لمواجهة هذه التحديات، ينبغي أن تركز الاستجابة الوطنية على تعزيز الاستقلال الاستراتيجي عبر إعادة تقييم السياسات الأمنية والاقتصادية والدبلوماسية. حيث يتطلب ذلك تحسين التعاون الأمني مع الاتحاد الأوروبي لضمان تدفق المعلومات الاستخباراتية الحيوية. أما على المستوى المعلوماتي، فيجب تطوير استراتيجيات فعالة لمكافحة التضليل الإعلامي عبر الاستثمار في الأمن السيبراني والمراقبة الرقمية. وعلى المستوى الأمني، يجب تعزيز الجهود الاستخباراتية لرصد الأنشطة اليمينية المتشددة قبل تحولها إلى تهديد مباشر. كما أن الإصلاحات الاقتصادية ضرورية لمعالجة التفاوتات الاجتماعية التي يستغلها اليمين المتشدد في دعايته. هذه الاستجابة الوطنية المتكاملة ستضمن تحقيق توازن بين الأمن الوطني والاستقرار السياسي مع الحفاظ على القيم الديمقراطية.
ختاماً، يمكن القول إن صعود اليمين المتشدد في المملكة المتحدة يمثل تحدياً متزايداً للأمن الوطني والاستقرار الاستراتيجي. ومع تزايد التأييد الشعبي لهذه الحركات، يبقى التحدي الأساسي أمام صانعي القرار: كيف تُمكن صياغة سياسات أمنية متماسكة تحمي الدولة من تهديدات اليمين المتشدد دون المساس بقيم الديمقراطية وحقوق الإنسان؟
*موجِّه باحث في كلية الدفاع الوطني