إبان ما كان يعرف بالربيع العربي، بشروره الممتدة حينها على الشعوب العربية، وإن كانت مدعومةً من دولٍ عظمى، وعلى رأسها رؤية الرئيس الأميركي باراك أوباما، كانت سوريا تمثل نموذجاّ مختلفاً، فلا تونس ولا مصر كانتا تستحقان ثوراتٍ شعبيةٍ عارمةٍ كالذي حدث، والأحق والأجدر كان هو الوضع في سوريا، لأنها كانت قد وصلت مع نظام الأسدين (الأب والابن) إلى مدى لا يحتمله التاريخ، لا من حيث رفض منطق التاريخ، ولا من حيث مدى عنف الدولة والطائفة غير الإنساني وغير المسبوق.
ذاكرة الإنسان تضعف مع التقدم في العمر، وتضعف أكثر مع بعض الأمراض، وأكثر مَن يعاني من ذلك هو مَن كانت ذاكرته حادةً فيدرك الفرقَ، وتزيد معاناته إذا لم يطوّر أدواتٍ ذهنية مختلفة تمكّنه من الاستمرار في العطاء.

ولئن كان ليس جيداً أن يذكر الإنسان نظراءه بما كتب وكتبوا قبل أكثر من عقدٍ من الزمان، فإنه من الجيد تذكر بعض القصص التي تعبر عن مرحلةٍ ليست بعيدةً، ولكنها تكشف التوجهات والمحاور الفكرية والسياسية والأيديولوجية التي كانت تعبر عن نفسها بقوةٍ وقسوةٍ حينذاك.
ولئن صح هذا في ذاكرة الفرد، فإنه لا يجوز أن يصح في الدول والمجتمعات والعلوم، حيث يجب أن تظل الذاكرة حيةً وقويةً، والمواقف الشخصية العفوية قد تكون معبرةً عن اللحظات التاريخية، فتختزل المعنى وتكثف الفكرة وتمنح الشعور باللحظة بعد نهايتها، وقد كان كاتب هذه السطور في عام 2013 يكتب بقوة مؤيداً لأي تغيير سياسيٍ يودي بنظام الأسد بعد انتفاض الشعب السوري ضده في مقالاتٍ مؤرشفة ومؤرخة، والتقى صدفةً في إحدى الدول الأوروبية بسائق يعمل في المؤسسة التي ذهب إليها استطباباً، لا يعرف أحدهما الآخر، وكان هو سورياً موالياً لنظام الأسد، فدار جدالٌ مهمٌ لأنه يذكر بتلك اللحظة التاريخية ومقولاتها وأفكارها المتصارعة.
قال هو: ما رأيك فيما يجري في سوريا؟ فقلت: أتمنى أن تنتهي الأزمة وترتاح سوريا وشعبها منها مرةً وإلى الأبد، وتعود لنفسها وشعبها وأمنها واستقرارها، فقال: الاستقرار يكون بقمع الثورة والقضاء على أي شخصٍ يتحدى النظام، فقلت: لا نعلم ما يجري في الواقع، لكن النظام أسرف في حق شعبه، ولم يجعل لهم أملاً إلا في التخلص منه، فقال: كلا، إن نظام الأسد باقٍ للأبد، وهو تعبير كان شائعاً وقتها، فقلت: هذا الكلام خطأ تاريخياً وسياسياً، فتاريخياً الأكثرية السورية ضده بسبب سياسات النظام الداخلية، وسياسياً، دول المنطقة العربية ضده لأنه لم يتقن سياسات والده، بل انحاز بكليته ليصبح في الجيب الصغير لإحدى الدول الإقليمية.
لستُ أعرف انتماء ذلك الإنسان السوري سياسياً أو طائفياً، لكنه غضب من هذا الرد وتحوّل للتحدي الصريح، وقال إن الدول العربية ستفنى على الرغم من قوتها وقوة الدول الداعمة لها وسيبقى نظام الأسد وستبقى الدولة الداعمة له وسيبقى «محور المقاومة»، فقلت له: لا تستطيع أنت ولا أستطيع أنا أن نعرف المستقبل، ولكننا سنصبر ونرى.
وقد صبر الشعب السوري وصبرت دول المنطقة وصبر العالم لأكثر من عقدٍ من الزمان، وتقلبت السياسات كعادتها واختلفت التوجهات وتغيرت الاستراتيجيات، وانتهى نظام الأسد في بضعة أيامٍ بعد صفقةٍ دوليةٍ تمت دون أن يشعر بها ولا تشعر بها الدولة التي دعمته، وصدق محدثي حينها في تعبيره عن يقينه ببقاء نظام الأسد للأبد كما كانت الدعاية السياسية والأيديولوجية تقول، ولكن التاريخ والواقع كانا أقوى بكثيرٍ.
وأخيراً، فبعض القصص، وإن كانت شخصيةً أو هامشيةً، إلا أنها حين استحضارها تمنح الفكرَ وعياً والعقلَ قدرةً على المقارنة.


*كاتب سعودي