يصل عدد خلايا الدماغ إلى مائة مليار خلية، وهى تتصل ببعضها البعض عبر تريليونات الوصلات العصبية، وهذا الاتصال معقد ومنظم بطريقة مذهلة، حتى أن كثيراً من العلماء يرون أن الدماغ هو أعقد ما في الكون.. حتى الآن. الجهاز العصبي هو جهاز معقد إذن، فليس هناك أصعب من دراسة العلاقة بين سلوك الإنسان وبين مكونات جهازه العصبي. ومنذ عقود يتبارى العلماء ومعهم أجهزتهم المتطورة في رسم خرائط للدماغ، وتقسيمه إلى مناطق متعددة، وداخل المنطقة الواحدة يجرى التقسيم من جديد إلى مواقع ومناطق فرعية، كأنما هي مدينة يجري تقسيمها إلى أحياء وشوارع وأزقة ومنازل متعددة الطوابق. وبالطبع فإنّه لا يقين نهائياً بشأن ذلك كله، وفي عام 2021 نشرت مجلة أتلانتيك مقالاً تتساءل فيه: «هل كل ما يعرفه علماء الأعصاب عن الدماغ البشري مجرد وهم كبير؟».. وما تزال المعركة قائمة بين من يرون أنهم في طريقهم للسيطرة، وبين من يرون أن ذلك ما يزال بعيداً. يحاول المليارديرات الجُدد الاستثمار في فهم الدماغ، ومحاولة العمل داخله، وربما التحكم به.
ولاتزال شرائح إيلون ماسك ومراكز جيف بيزوس تعمل داخل الدماغ بحثاً عن علاجٍ لمرض، أو إطالة لعُمر، أو السيطرة على أمرٍ ما، ولايزال من يتابعون ذلك منقسمين بين من يرون أعمالهما الرائعة ستدفع مستوى الصحة وجودة الحياة للأمام، وبين من يرون ما يجري مؤامرة، وأنهما يريدان العبث في الدماغ والسيطرة على العقل.
في العالم العربي صدرت ترجمة شهيرة لكتاب «نانسي آندرياسن».. «الدماغ الخلاق.. علم نفس العبقرية».. وفيه نقاش مطول لأسئلة شائعة عما إذا كانت العبقرية فطرية أم مكتسبة، وما هي أعداد العباقرة الذين ولدوا ولم يدركوا عبقريتهم، وما إمكانية غرس ملكة الإبداع وتخليق العبقرية عبْر تحفيز القدرات الإبداعية. ثمّة من يرون أن العبقرية هي قدر، ولا يكون المرء عبقرياً بإرادته بل بجيناته، إذْ تلعب الجينات الدور الأكبر. ولكن ذلك الاتجاه لم يعد مقنعاً علمياً، وتذهب أغلب الدراسات إلى عدم صحة ذلك، والتأكيد على أنه لا أحد يولد أديباً كبيراً أو طبيباً عظيماً أو فناناً مدهشاً.. بل لابد من التدريب والرعاية والعمل المستمر، وتحتل البيئة المحيطة والعائلة والمدرسة الدور الأكبر في تكوينه ومساره.
تُعد نظرية آندرس إريكسون واحدة من أشهر النظريات في هذا السياق، فالناس لا يولدون بقدرة ذاتية على الإبداع والنبوغ، بل عليهم أن يتم إعدادهم وتدريبهم وعليهم أن يعملوا بدأب وعزيمة لا تنقطع. وهم بالطبع يُضحُّون بالكثير من متع الحياة والعلاقات الاجتماعية وأوقات التسلية والبهجة، من أجل تغذية عبقريتهم. ويرى إريكسون أننا لسنا محددين بعوامل وراثية. سيكون ذلك مؤثراً في بعض المواصفات الجسدية كالطول وغيره، ولكن الحمض النووي والعوامل الوراثية لا تحدد كل شيء، بل هو التعليم والعلم والإرادة.
إن قصصاً عديدة للعباقرة تدل على أن حياتهم كانت عادية، وأنهم ربما لو حدث شئٌ ما آخر في طريقهم لانحرف مسعاهم. وفي ظروف أخرى ربما كان عباقرة مثل ألبرت أينشتاين وأحمد زويل قد استقر بهم المقام باعة في أحد المحال، أو مزارعين بسطاء، أو في عداد البطالة.. لو كان مسار حياتهم قد اختلف في وقت ما. لا يملك المرء أن يُضاعف من ذكائه لكنه يملك مضاعفة عمله، وهو إذْ لا يملك إدارة جيناته فإنه يملك إدارة تعليمه وتطوير حياته. ليس ضرورياً أن يكون المرء عبقرياً لكن من الضروري أن يكون مفيداً. قد لا يملك الإنسان الانتصار في معركة الذكاء.. لكنه يمكن أن ينتصر في معركة العطاء.
*كاتب مصري