في حمأة الأحداث المتلاحقة التي يشهدها العراق، يبرز سؤال محوري حول مدى بشاعة «تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام»، المعروف اختصاراً ب«داعش»، الذي بسط سيطرته في الأسبوع الماضي على أجزاء واسعة من شمال العراق، لكن للتعرف على درجة تطرف ووحشية «داعش» إليكم بعض المعطيات: فمباشرة بعد السيطرة على ثاني أكبر مدينة عراقية تباهى التنظيم بأنه أعدم 1700 أسير بدم بارد، كما أعلن أيضاً، ودون أن يرف له جفن، نيته قتل زعماء الدين الشيعة في العراق واستهداف مزاراتهم، بل إن «داعش» على درجة من التشدد والعنف بحيث أن «القاعدة» نفسها تبرأت منه ونفضت أيديها من ممارساتها الوحشية، وكما يصفها «رايان كروكر»، السفير الأميركي السابق لدى العراق «تعتبر داعش بمثابة القاعدة لكنها تتناول منشطات». غير أن هذا التطرف الواضح في ملامح «داعش» والوحشية التي تتسم بها هي ما يجعلها ضعيفة وتحمل في طياتها بذور دمارها، فالتنظيم مخيف للكثيرين سواء داخل العراق، أو خارجه إلى حد أنه يدفع حالياً بعدد من الخصوم التقليديين في الشرق الأوسط إلى التلاقي والتفاهم لوقف زحفها ودرء خطرها، مثل الولايات المتحدة وإيران، أو تركيا والأكراد، بل إذا ما نجحت إدارة أوباما في نهجها الدبلوماسي، ربما يظهر تحالف حتى بين سُنة العراق وشيعته. ولعل الخطر الذي يتهيب منه هؤلاء الحلفاء المحتملون، وغير المألوفين، ليس في أن تجتاح «داعش» كل العراق، لأن التنظيم بالكاد يتوفر على 15 ألف عنصر كأعلى تقدير، ولا يستطيع بأي حال دخول بغداد ذات الغالبية الشيعية، بل إن ما يخشونه هو أن يحقق التنظيم الإرهابي هدفه المتمثل في إشعال نار حرب سُنية شيعية في العالم العربي، بدءاً من سوريا والعراق وامتداداً إلى البلدان الأخرى. هذا التخوف يعبر عنه «كولين كاهل»، المسؤول البارز في «البنتاجون» الذي عمل في العراق ويدرس حالياً بجامعة جورج تاون الأميركية، قائلاً «إن التحدي الأهم هو قلب الزخم المتواصل في العراق لمصلحة داعش، والذي قد ينزلق بالبلد إلى أتون الحرب الأهلية، وهناك عدد من الفاعلين في المنطقة الذين يتقاسمون مصلحة عدم حدوث ذلك». وفي هذا السياق يمكن فهم الخطوة الأولى التي أقدم عليها أوباما بدفع رئيس الوزراء العراقي، نوري المالكي، إلى توسيع المشاركة الحكومية لتشمل قادة بارزين في المكون السُني، وهي المشاركة التي تستند في جميع الأحوال إلى مقتضيات الدستور العراقي الذي أُقر في 2005 والداعي إلى لا مركزية السلطة الحكومية وتوزيع الصلاحيات على مناطق البلاد والمحافظات، كما صيغ الدستور لضمان تقاسم السلطة بين المكونات الأساسية الثلاث للبلاد، وهم الشيعة والسُنة والأكراد، لكن ما حصل أن المالكي تجاهل كل ذلك، وعمد إلى مركزية السلطة بين يديه في بغداد، كما اعتقل كبار الرموز السُنية، والنتيجة أن اقترب بعض السُنة من «داعش»، رغم كل بطشها المعروف. وقد أصر أوباما في تدخله الأخير على خلفية الأزمة العراقية أن يغير المالكي هذه السياسات الإقصائية كثمن للدعم العسكري، حيث قال «في غياب الجهد السياسي لن ينفع العمل العسكري على مدى القريب في حل الإشكالات المطروحة»، وحسب المسؤولين فإن هذا الجهد السياسي الذي أصر عليه أوباما، يكمن في صلب المباحثات الأميركية مع إيران وليس إمكانية التدخل العسكري، بحيث تتطلع أميركا لأن تضغط إيران على المالكي في نفس الاتجاه، الأمر الذي يوضحه كولين كاهل، قائلاً «لا شك أن مصالحنا ومصالح إيران متقاربة في العراق، فإيران لا تريد أن تزحف داعش على العراق، كما لا تريد له أن ينزلق إلى الحرب الأهلية، أو أن يتحول إلى دولة فاشلة بجوارها». وفي الجهة المقابلة، ساهمت الأحداث الأخيرة في توطيد العلاقة بين منطقة كردستان في الشمال ذات الحكم الذاتي وبين تركيا بعد سنوات من التوتر. ففيما كانت أنقرة تخشى من تنامي قوة الأكراد في شمال العراق واحتمال انفصالهم وإذكاء المشاعر المماثلة لدى أكراد تركيا، إلا أنها اليوم تجمعها بكردستان العراق علاقات اقتصادية وثيقة من خلال أنابيب النفط الجديدة التي تمر إلى تركيا، واليوم مع تصاعد قوة «داعش» تلعب كردستان العراق دور المنطقة العازلة التي تفصل تركيا عن باقي العراق المضطرب. ويبقى هناك خصمان اثنان لم يتمكنا بعد من مد جسور التواصل بينهما وإنْ كانا يجدان نفسيهما في خندق واحد، وهما السعودية والمالكي، فالطرفان لا يحملان الكثير من الود لبعضهما البعض، لا سيما وأن السعودية لا ترى في رئيس الوزراء العراقي أكثر من دمية تحركها إيران، والمعضلة بالنسبة للسعودية التي أعلنت عن كشفها لخلية إرهابية مرتبطة بتنظيم «داعش» أن تقرر ما الذي تخشاه أكثر تسرب «داعش» إلى السعودية نفسها، أو وجود المالكي في العراق، وهنا يقول كاهل «قد لا يمد السعوديون يد العون للمالكي، لكنهم يستطيعون المساعدة من خلال عدم القيام بما من شأنه أن يفاقم الوضع، ويمكنهم من لعب دور إيجابي من خلال حث القبائل السُنية في العراق على التجاوب مع المالكي إذا تقدم بمبادرة تصالحية». وفي الوقت الذي اعتقد فيه أوباما أنه انتهى من مشكلة العراق وطوى صفحته نهائياً مع سحب آخر جندي أميركي من هناك في 2011، تعود الأحداث الأخيرة وخطر تشكيل دولة تابعة لتنظيم «داعش» في المنطقة الحدودية بين سوريا والعراق، لتفرض نفسها عليه في ظل الخيارات المحدودة، بحيث سيكون عليه الجمع بين الدبلوماسية والدعم العسكري، لإبعاد شبح الحرب الأهلية عن العراق. دويل مكمانوس محلل سياسي أميركي ينشر بترتيب خاص مع خدمة «إم. سي.تي.انترناشونال»