مثل العديد من الإدارات الأميركية السابقة، لم تولِ إدارة كلينتون اهتماماً يذكر لمسألة نشر الديمقراطية في منطقة الشرق الأوسط. وربما يكون السبب وراء ذلك، تعويل الإدارات السابقة أكثر، على الدفع بعملية سلام الشرق الأوسط بين إسرائيل والفلسطينيين. وعليه فقد كان في تقدير تلك الإدارات، أنه ربما يكون من السهل عليها التفاوض مع القادة والزعماء العرب القائمين، بدلا من التعامل مع قادة منتخبين، ربما تكون ميولهم أقرب إلى مواقف العداء لإسرائيل، و للولايات المتحدة الأميركية نفسها. وكان السائد أيضا في السياسات الخارجية لتلك الإدارات، أنه وفيما لو تم إحلال السلام بين طرفي النزاع، ففي ظل تلك الظروف، ربما تكون الفرصة قد واتت لحفز عملية الإصلاح السياسي في المنطقة.
وفيما لو كانت هناك أصوات تنادي بنشر الديمقراطية في منطقة الشرق الأوسط في دوائر صنع السياسات الخارجية الأميركية في عقد التسعينيات، فإن على الأرجح أن تكون تلك الأصوات صادرة عن تيار اليسار الأميركي، في إصدارات مثل "ميريب" وليس في مجلة "الشؤون الدولية" أو مجلة "تعليقات" بالتأكيد. ففي مجلات وإصدارات اليسار، كان هناك من عبر عن أنه ربما كان الأفيد لمنطقة الشرق الأوسط، ومن ثم لخدمة المصالح الأميركية فيها، أن تكون هناك حكومات منتخبة ومسؤولة أمام جماهيرها، وقادرة على تمثيلها أفضل مما هو عليه حال الأنظمة القائمة. لكن في المقابل، فقد كانت غالبية من يدعون اليوم إلى فكرة نشر الديمقراطية في المنطقة، ألد أعداء ومناهضي الفكرة نفسها وقتئذ، حين طرحت من قبل اليسار الأميركي.
وكان الاعتراض عليها مبنياً على استهجان الفكرة نفسها، ودمغها بالسذاجة والسطحية. فقد كان في تقدير هؤلاء أنه لا سبيل مطلقاً للدمج بين الديمقراطية والإسلام من حيث المبدأ والأساس، لما بين الاثنين من تعارض وتضاد. علاوة على ذلك، فقد كان هناك من يرى أن إجراء انتخابات مبكرة في المنطقة، ربما يسفر عن تجربة ديمقراطية شائهة، إلى جانب المخاوف التي أثيرت حينها من أن يكون الليبراليون قد خلطوا أوراق النزعة الشعبوية بالديمقراطية. قبل سنوات قليلة مضت، نشر الكاتب فؤاد زكريا كتاباً مؤثراً وقوياً في تنبيهه إلى مغبة "الانتخابوية"- أي مساواة مجرد إجراء الانتخابات بالديمقراطية-، وهي ممارسة شكلية صورية، قد تتمخض عن ديمقراطيات "غير ليبرالية"، بدلا من أن تفرز ديمقراطيات ليبرالية دستورية. وفي وقت ما، بدت وجهة النظر المعارضة لإجراء الانتخابات وحفز الإصلاح السياسي في منطقة الشرق الأوسط هذه، وجهة النظر السائدة في الأوساط المحافظة في الولايات المتحدة عموماً. فيا لها من مفاجأة أن نرى المحافظين الجدد اليوم، العنصر الأميركي الأكثر حماساً لإجراء ذات الانتخابات الصورية الشكلية، التي حذر من مخاطر إتيانها بـ"ديمقراطيات غير ليبرالية" الكاتب فؤاد زكريا!
وعليه، فإن ممثلي الجيل القديم من المحافظين الجدد الأميركيين –من أمثال جان كيرباتريك ودانيل موينيهام وغيرهما- لم يعط أهمية تذكر للديمقراطية، بصفتها مفتاحاً لحل المشكلات التي تعانيها الدول النامية. بل على نقيض ذلك تماماً، كان كيرباتريك، قد اشتهر بكتابته ودعوته إلى ضرورة دعم الولايات المتحدة لـ"الأنظمة الشمولية" الحاكمة في تلك البلدان، طالما بقيت تلك الأنظمة، على عدائها المستحكم للشيوعية. بيد أنه ومع حلول عقد الثمانينيات، كان بعض ممثلي الأجيال الشابة وقتئذ من المحافظين الجدد، قد اختلف في الرأي مع الجيل القديم من المحافظين حول هذه المسألة بالذات. وكان من الاختبارات العملية لما دعا إليه شباب المحافظين الجدد من أمثال بول وولفوفيتز وغيره، ما جرى في كل من الفليبين وإندونيسيا. ففي كلا البلدين الأخيرين، كان وولفوفيتز، قد نادى بعدم دعم نظامي الجنرال ماركوس وسوهارتو هناك. ومن خلال النجاح النسبي الذي حققته عملية التحول الديمقراطي في الفليبين وإندونيسيا، اقتنع وولفوفيتز فيما يبدو، بإمكان تطبيق التجربة ذاتها على منطقة الشرق الأوسط.
وعلينا أن نذكر بهذه المناسبة، أن الرئيس بوش لم يقد حملته الانتخابية لعام 2000، على أساس الدعوة لتصدير الديمقراطية خارج حدود الولايات المتحدة. بدلا من ذلك، كان بوش قد دعا إلى تبني سياسة خارجية متواضعة، وتحدث ضمناً عن عملية "بناء الأمم". وحتى في ظل الهرولة باتجاه شن الحرب على العراق، كانت المبررات التي سيقت لشن الحرب، مبنية على تقديرات واقعية. ذلك أن صدام حسين كان يمثل مهدداً عسكرياً للأمن القومي للولايات المتحدة الأميركية، نظراً لما نسب إليه من حيازة أسلحة دمار شامل مزعومة، ومن علاقات تربطه بتنظيم القاعدة. وقتها لم يكن قد أثير سوى النزر اليسير جدا عن سجل صدام السيئ في مضمار حقوق الإنسان، ربما لأن أسوأ ما حدث من انتهاكات في ذلك السجل، ربما وقع بعد عام 1991، حين وقفت واشنطن موقف المتفرج، وهي تنظر إلى سحق صدام حسين الوحشي، لانتفاضة الأكراد والشيعة، الذين كانت إدارة بوش الأب قد حرضتهم على تنظيمها والقيام