(48) فَإِنْ تَفُقِ الأَنَامَ وَأَنْتَ مِنْهُم * فَإِنَّ المِسْكَ بَعْضُ دَمِ الغَزَالِ
تَفُقِ الأنامَ: أيْ تعلُوهم درجةً ومنزِلَةً.
تَفُقْ: تَتَفَوَّق، فاقَ الشيءَ: عَلَاه، يُقال: فاقَ الطَّالِبُ الفَصْلَ: أيْ عَلَاهُمْ في عِلْمِهِ وتَحْصِيلِهِ.
الأنَامُ: الجِنُّ والإِنْسُ. قال تعالَى: (وَالْأَرْضَ وَضَعَها لِلْأَنامِ)، قال المُفَسِّرون الأنَامُ: الجِنُّ والإِنْسُ.
المِسْكُ: الطِّيبُ. نَوعٌ من العِطْرِ له رائِحَةٌ زَكِيَّةٌ، يُسْتَخْرَجُ مِنْ بَطْنِ الغَزَالِ. وسُمِّيَ مِسْكاً لأنَّ ذَكَرَ الغَزَالِ يُمسِكُهُ في سُرَّتِهِ. (المُحِبُّ والمَحْبُوبُ والمَشْمُومُ والمَشْرُوبُ)، للشاعرِ السَّرِيّ الرَّفَاء (ت 362 هـ).
تقولُ العَرَبُ: (ليسَ الطِّيبُ إلا المِسْكُ). قال أبو بَكْرٍ الخَوَارِزْمِيُّ: «وَأَشْرَفُ المَشْمُومَاتِ المِسْكُ وَهْوَ دَمُ غَزَالٍ». (مُفيدُ العُلومِ ومُبِيدُ الهُمومِ). والمَشْمُومَاتُ: جَمْعُ مَشْمُومٍ، وَهْوَ مَصْدَرُ فِعْلِ شَمَّ، وَهْوَ مَا يُدرَكُ بحَاسَّةِ الشَّمِّ.
دَمٌ: سائِلٌ أَحْمَرُ يَسْرِي فِي عُرُوقِ الإنْسَانِ أو الحَيَوَانِ، يُقال: أَدْمَى فلاناً: أَسَالَ دَمَهُ بِضَرْبِهِ حَتَّى خَرَجَ منه الدَّمُ.
الغَزَالُ: حَيَوانٌ أَلِيفٌ، سَرِيعُ العَدْوِ، رَشِيقُ الحَرَكَةِ، جَمِيلُ القَوَامِ، يتغذى على الأعشاب. 
غَزَالٌ جَمْعُهُ غِزْلَانٌ، وهي تَعِيشُ في مَجْمُوعَاتِ قِطْعَانٍ، ولَا تَعِيشُ مُنْفَرِدَةً حتَّى لَا يَسْهُلَ افْتِرِاسُهَا والاِنْفَرَادُ بِهَا.
المَعْنَى: يَقُولُ الشَّاعِرُ مُخَاطِباً مَمْدُوحَهُ: إِنَّكَ وَإِنْ كُنْتَ تَشْتَرِكُ مَعَ الأَنَامِ في الجِنْسِ، إلَّا أَنَّكَ تَتَفَوَّقُ عَلَيْهِم. واسْتَخْدَمَ (الأنَام)، في تَأْكِيدِ تَفَوُّقِ مَمْدُوحِهِ عَلَيْهِم، مُبَالَغَةً في المَدْحِ، حيثُ يَشْمَلُ مَعْنَى (الأنام) الإِنْسَ وَالجِنَّ. 
وَمَعَ أنَّ مَمْدُوحَ المُتَنَبِّي يَنْتَمِي إلَى البَشَرِ، فإنَّ الشَاعِرَ لَمْ يَكْتَفِ بِبَيَانِ تَفَوُّقِهِ على البَشَرِ فَحَسْبُ، وإِنَّمَا أَطْنَبَ في مَدْحِه بِتِأْكِيدِ عُلُوِّه وتَفَوُّقِهِ على الإِنْسِ والجِنِّ مَعاً، وِإِنْ كانَ مِنْهُمْ.
ولَكِنْ، كيفَ قالَ المُتَنَبِّي لِلْمَمْدُوحِ، الذي يَتَفَوَّقُ فِي عُلُوِّهِ على الثَّقّلَيْنِ، (وأنتَ مِنْهُمْ)؟ فَإِذَا كانَ المَمْدُوحُ مِنَ الإِنْسِ، وهو أَصْلاً مِنِ الإنسِ، فَكَيْفَ يَكُونُ مِنَ الجِنِّ، اِسْتِنَاداً لِقَوْلِ أبي الطَيِّبِ في شَطْرِ بِيْتِه:
فَإِنْ تَفُقِ الأَنَامَ وَأَنْتَ مِنْهُم
وجَوَابُ السُّؤَالِ هو أَنَّ قَوْلَهُ (مِنْهُم)، لا يَعُودُ فيه الضَّمِيرُ (هُمْ) إلى الجِنِّ، بَلْ يَعُودُ إلَى الأَنَامِ، وَهُمُ الجِنُّ والإِنْسُ سَوِياً، وعَلَيْهِ يُمْكِنُ اعْتِبَارُ أيِّ إِنْسِيٍّ أو جِنِّي مَنَ الأَنَامِ، فهو بَعْضٌ مِنِ كُلٍّ، وكذا هو مَمْدُوحُ المُتَنَبِّي: بعضٌ من الأَنَامِ. 
بَعْدَ أنْ أَكَّدَ الشَّاِعُر هذا العُلُوَّ والتَفَوُّقَ لِلْمَمْدُوحِ عَلَى الثَّقَلَيْنِ الجِنِّ والإِنْسِ، وهوَ مِنْهُمْ، أيْ: يَشْتَرِكُ مَعَهُمْ في الجِنْسِ، والاِنْتِمَاءِ إلَى (الأَنَامِ)، شَرَحَ في عَجُزِ البَيْتِ كَيفَ يَشْتَرِكُ عُنْصُرَانِ فِيِ الجِنْسِ، وَيَتَفَوَّقُ أَحَدُهُمَا على الآخَرِ ويَعْلُوهُ قِيمَةً وشَأْنًا، فقالَ: فَإِنَّ المِسْكَ بَعْضُ دَمِ الغَزَالِ، فالمِسْكُ الذي تُجِلُّهُ العَرَبُ وتَسْتَحْسِنُهُ إلى دَرَجَةِ إنْكَارِ كُلِّ طِيبٍ غَيْرَه، يُسْتَخْرَجُ مِنْ دَمِ الغَزَالِ، ومَعْلُومٌ أنَّ الدَّمَ مُسْتَقْذَرٌ مُسْتَهْجَنٌ، ودَمُ الحَيَوانِ نَجِسٌ بالإِجْمَاعِ. 
يقولُ الشَّاعِرُ: إنَّ المِسْكَ، الطِّيبَ المُسْتَحْسَنَ المُبَجَّلَ، هُوَ (بَعْضٌ): أي جُزْءٌ، مِنْ دَمِ الغَزَالِ النَّجِسِ المُسْتَقْذَرِ المُحْتقَرِ، ِ وما المَمْدُوحُ حِينَئِذٍ إلَّا (الكُلُّ)، لِذَاكَ الجُزْءِ (المِسْكِ).
إنَّ اِجْتِمَاعَ صِنْفَيْنِ في دَائِرَةٍ وَاحِدَةٍ، لَا يَعْنِي تَشَابُهَهُمَا بالضَّرُورَةِ، وبالتَّالِي، لَا يَقْتَضِي تَسَاوِيهُمَا بِإِطْلَاقٍ في القِيمَةِ أوِ المَنْزِلَةِ أوِ القَدْرِ مَثْلَما هي حَالُ عَدَمِ تَسَاوِي المِسْكِ ودَمِ الغَزَالِ. 
وهَذِهِ فِكْرَةٌ طَريفةٌ وذَكيّةٌ، أجادَ المُتَنَبِّي عَرْضَهَا في شِعْرِه بِشَكْلٍ بَدِيعٍ، وكَرَّرَها في أَكْثَرَ مِنْ مَوْضِعٍ، كَقَوْلِهِ:
وإِنْ تَكُنْ تَغْلِبُ الغَلبَاءُ عُنصُرَهَا * فَإِنَّ فِي الخَمْرِ مَعنًى لَيسَ فِي العِنَبِ
وقوله:
وَمَا أَنَا مِنهُمُ بِالعَيشِ فِيهِمْ * ولَكِنْ مَعْدِنُ الذَّهَبِ الرَّغَامُ
ولَيْسَ أجْمَلَ مِنْ حَدِيثِ الإِمَامِ الجُرْجَاِنيِّ في البَلَاغَةِ، ولَهُ على بَيْتِ القَصِيدِ تَعْلِيقٌ مُفِيدٌ له عندنا شَميمُ المِسْكِ يقولُ فيه، بَلَّلَ الله قَبْرَه بالرَّحَمَاتِ:
«إنَّ المَعَانِي التي يَجِيءُ التَّمْثِيلُ فِي عَقِبِهَا، على ضَرْبَيْنِ: غَرِيب بديع، يُمكِن أن يُخِالَفَ فيه، ويُدَّعَى امِتِنَاعُه واسْتِحَالَةُ وُجُودِهِ، وَذَلِكَ نَحْوَ قَوْلِهِ: 
فإن تَفُقِ الأنَامَ وأنتَ منهم * فَإنَّ المِسكَ بعضُ دَمِ الغَزَالِ
وذلِكَ أنَّه أرادَ أَنَّهُ فَاقَ الأَنَامَ، وفَاتَهُمْ إلى حَدٍّ بَطَلَ مَعَهُ أن يكونَ بَيْنَهُ وبَيْنَهُمْ مُشَابَهَةٌ ومُقَارَبَةٌ، بَلْ صارَ كَأَنَّه أَصْلٌ بِنَفْسِه، وجِنْسٌ بِرَأْسِه، وهذا أمْرٌ غريبٌ، وهو أن يَتَنَاهَى بَعْضُ أَجْزَاءِ الجِنْسِ فِي الفَضَائِلِ الخَاصَّةِ بِهِ، إلى أَنْ يِصِيرَ كَأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ ذَلِكَ الجِنْسِ، وبالمُدَّعِي لَهُ حَاجَةٌ إِلَى أَنْ يُصَحِّحَ دَعْوَاهُ، في جَوَازِ وُجُودِهِ عَلَى الجُمْلَةِ، إلى أَنْ يَجِيءَ إلى وُجُودِهِ فِي المَمْدُوحِ، فَإِذَا قالَ: 
فَإِنَّ المِسْكَ بَعْضُ دَمِ الغَزَالَ، فَقَدْ اِحْتَجَّ لِدَعْوَاهُ، وأَبَانَ أَنَّ لِمَا ادَّعَاهُ أَصْلاً في الوُجُودِ، وبَرَّأَ نَفْسَه مِنْ ضَعَةِ الكَذِبِ، وبَاعَدَهَا مِنْ سَفَهِ المُقْدِمِ عَلى غَيْرِ بَصِيرَةٍ، والمُتَوَسِّعِ فِي الدَّعْوَى مِنْ غَيْرِ بَيِّنَةٍ، وذلك أنَّ المِسْكَ قد خَرَجَ عَنْ صِفَةِ الدَّمِ وَحَقِيقَتِهِ، حَتَّى لَا يُعَدُّ في جِنْسِهٍ، إِذْ لَا يُوجَدُ في الدَّمِ شِيْءٌ مِنْ أَوْصَافِهِ الشَّرِيفَةِ الخَاصَّةِ بِوَجْهٍ مِنَ الوُجُوهِ، لَا مَا قَلَّ وَلَا مَا كَثُرَ، وَلَا فِي المِسْكِ شَيْءٌ مِنَ الأَوْصَافِ التِي كَانَ لَهَا الدَّمُ دَماً البَتَّةَ».