قبل أيام قليلة مضت، تحدث ستيفن هادلي نائب مستشار الأمن القومي للرئيس بوش في واشنطن، واصفا النهج السابق، الذي كانت تنتهجه الولايات المتحدة الأميركية، إزاء منطقة الشرق الأوسط قبل إدارة الرئيس الحالي بوش، بأنه يعد دليلا على الفشل التام. قال هادلي على حد تعبيره: "لقد أطالت أميركا إدارة النظر للناحية الأخرى، بينما كانت شعوب المنطقة تعاني تحت نير الأنظمة القمعية المتسلطة. ولمدة طويلة من الزمن، واصل الغرب تضحيته بالمبادئ الديمقراطية التي يؤمن بها، على مذبح تحقيق الاستقرار في المنطقة. غير أن ستين عاما من اختلاق المبررات والأعذار، والتواؤم مع انعدام الحرية والديمقراطية في المنطقة، لم تجعل العالم أكثر أمنا ولا سلاما بأي حال من الأحوال". ولأنه يتعذر في نهاية المطاف، شراء الاستقرار بثمن الحرية وعلى حسابها، فإنه من الممكن إيجاد العذر لمن يتصور أنه يستمع إلى ليبرالي، أو حتى لأحد أتباع نعوم تشومسكي، وهو يهاجم نزوع القادة الأميركيين السابقين، لتدليل طغاة الشرق الأوسط ومستبديه!. غير أننا في الواقع نستمع إلى أحد ممثلي تيار المحافظين الجدد، التابعين لإدارة بوش الحالية، وهو يقدم المنحى الجديد للإدارة التي يعمل فيها، التي تصورالديمقراطية على أنها الحل الناجع لكافة مشكلات وعلل منطقة الشرق الأوسط.
في كلمته نفسها، مضى هادلي للقول: يؤمن الرئيس بوش بأن نوعية وجودة الحكومة الفلسطينية، لا تقلان أهمية بأية حال من الأحوال لسلام الشرق الأوسط، عن ترسيم الحدود بين طرفي النزاع. وكاد هادلي أن يقول صراحة إن الشرط اللازم لإعلان الدولة الفلسطينية، هو أن تكون للفلسطينيين دولتهم الديمقراطية الليبرالية الداعمة لحكم القانون، التي تحترم حقوق الإنسان، وتكافح الإرهاب في المقام الأول. ومما لا شك فيه أن هذه التصريحات ملفتة للنظر، وتبدو ثورية في مضامينها ومعانيها العامة. ولكن السؤال هو ما إذا كان علينا أن نأخذ هذه التصريحات فعلا على محمل الجد، أم نطرحها جانبا، ونعاملها على أنها من مجرد لغو؟. إن أخذناها بجدية، فإن ذلك يعني أن الولايات المتحدة لم تعد تهتم كثيرا بمسألة الاستقرار- وهي الكلمة التقليدية المأثورة في قاموس الدبلوماسيين الأميركيين-، وأنها اختارت طريق المضي في مهمة إعادة تشكيل منطقة الشرق الأوسط، التي لا تمثل الحملة الحالية على العراق، سوى مقدمة لها.
هل فرضية هادلي صحيحة أم لا؟. وهل السياسات الأميركية المطبقة خلال الفترة الممتدة بين 1945-2001 لم تكن سوى تكريس للفشل التام في منطقة الشرق الأوسط؟. في وسعنا جميعا التفكير مجددا، في العثرات التي صاحبت مسيرة السياسات الأميركية إزاء المنطقة، خلال الفترة المذكورة. غير أنه لم تجر خلال تلك الفترة أي حرب كبيرة تضاهي الحرب الكورية أو حرب فيتنام مثلا. كما لم تنشب الحرب بين الاتحاد السوفييتي وأميركا، على رغم التنافس الحاد والمرير بين الطرفين. وكانت أميركا هي التي برزت كقوة دولية مؤثرة في المسرح العالمي، خلافا لوضعية الاتحاد السوفييتي السابق.
وعلى الرغم من أن الإطاحة بنظام شاه إيران قد حدثت في عام 1979، عن طريق ثورة إسلامية معادية في توجهاتها للولايات المتحدة الأميركية، إلا أن العام نفسه، شهد توقيع اتفاق سلام بين مصر وإسرائيل، وكان بداية لتعزيز العلاقات الأميركية-المصرية إلى اليوم. ومهما يكن من أمر النقد الذي قد يوجه إلى تلك الخطوات والسياسات، إلا أن الحقيقة التي تبقى، هي أنها أثمرت شيئا إيجابيا، يصب في خدمة المصالح القومية الأميركية.
وإذا ما ألقينا مجرد نظرة على التكلفة المالية والبشرية للسياسات الأميركية طوال الفترة السابقة لعام 2001، وبين نظيرتها خلال الأعوام الخمسة الماضية وحدها، فإننا سنقف على فارق مذهل وكبير. فخلال الـ 55 عاما الممتدة من نهاية الحرب العالمية الثانية، وحتى لحظة تولي الرئيس الحالي جورج بوش مقاليد السلطة في البيت الأبيض، لم يمت من الأميركيين في منطقة الشرق الأوسط سوى ألف منهم، في أحداث عنف لها صلة بالمنطقة، بمعدل 20 في المئة سنويا من العدد الإجمالي. أما في السنوات الأربع الماضية وحدها، فقد لقي في المتوسط الف أميركي حتفه سنويا- بمن فيهم الثلاثة آلاف، الذين لقوا حتفهم في هجمات الحادي عشر من سبتمبر-. أما التكلفة المالية، فقد ارتفعت من 5 مليارات دولار في المتوسط سنويا خلال الفترة السابقة لعام 2000، إلى 100 مليار دولار سنويا اليوم. إلى ذلك فقد ارتفع سعر النفط من متوسط 10-15 دولارا للبرميل حتى عام 2001، إلى ما يزيد على 50 دولارا للبرميل الواحد الآن!
وعلى الرغم من أنه لا يمكن إلقاء كل المسؤولية الخاصة بارتفاع التكلفة عموما، على طريقة تنفيذ إدارة الرئيس بوش لسياساتها وحدها، إلا أن الأرقام نفسها تشير إلى أن الإدارة تحقق أهدافا، تقل قيمتها كثيرا عن التكلفة الباهظة التي تتكبدها أميركا على صعيد البشر والأموال. وبالنظر إلى الإخفاق الاستخباراتي الكبير الذي سبق شن الحرب على العراق، فإن هذه التكلفة تتعاظ