قبل أسبوعين عبّر المراقبون المتابعون للصراع الفلسطيني- الإسرائيلي عن تفاؤل حذر حول احتمال انتعاش مسيرة عملية السلام. وكان الدافع وراء هذا الشعور يتعلق بتسريبات تفيد بأن وزير الخارجية الأميركي كيري كان يحضر لتسليم الطرفين صيغة إطار أميركية جديدة لاتفاقية السلام. وفي رأيي الشخصي أن هذه الحماسة ومشاعر التفاؤل التي انتابت العديد من المحللين بالغت في ترجيح مشاعر التعلق بالأمل على حساب ما يتطلبه التحليل الواقعي للمشكلة من خبرة ومن ضرورة أخذ الحقائق القائمة على الأرض بعين الاعتبار. ويعلّمنا التاريخ أن العديد من القادة الإسرائيليين توصلوا إلى النتيجة التي تفيد بأن السلام، لا الحرب، هو الخطر الحقيقي الذي يهدد دولة إسرائيل! وذلك لأن من شأن السلام أن يقوّض الأسس التي قام عليها الكيان الصهيوني المبني على أساس سياسة الاستيطان والغزو بقوة السلاح. وهذا يعني أن السلام سيضع حداً لهذه السياسة، وسيهدد الأسس التي قام عليها الكيان الصهيوني. ولطالما كانت الحرب والمواجهات المسلحة تمثل القوّة المحرّكة للمعتقدات الصهيونية التي تدّعي الحق في امتلاك أرض فلسطين. ولن تتمكن الحركة الصهيونية من الانتصار في معركة الصراع على تلك الأرض ما لم تنجح في استخدام القوة لطرد كل الفلسطينيين منها. وقد استبطن قادة إسرائيل تماماً هذه الحقيقة من دون أن يجهروا بها في العَلَن. واعتمدوا في هذه السياسة على «فبركة الأكاذيب والافتراءات» باعتبارها تمثل أدوات ضرورية للدعاية والتضليل. وكان «جوزيف جوبلز»، وزير الدعاية النازي في حكومة الرايخ الثالث (وهو منصب موازٍ لمنصب وزير الإعلام هذه الأيام)، قد طلع بنظرية تقول: «إذا تمكنتَ من تأليف كذبة كبيرة بما فيه الكفاية، وواصلت ترديدها على مسامع الناس من دون انقطاع، فسيأتي الوقت الذي يصدّقونها فيه». وكانت الأكاذيب والافتراءات النازية قد تمّ حبكها وتأليفها بحيث لا يمكن دحضها بسهولة. ولنتمعّن الآن في إحدى الافتراءات الصهيونية القديمة التي تحمل في طياتها مظاهر العداء والاستفزاز والتي تقول إن فلسطين هي أرض بلا شعب لشعب (اليهود) بلا أرض! وكانت هذه الكذبة الكبرى صالحة لأن تمثل حجة مقنعة من وجهة نظر الصهاينة لطرد 750 ألف فلسطيني من وطنهم خلال حرب عام 1948. وبقيت هذه الكذبة الدعائية الإسرائيلية هي القصة المقدَّمة لتفسير الأحداث اللاحقة لعدة عقود. وتقول بعض تفاصيل هذه الكذبة إن الفلسطينيين رحلوا عن أراضيهم طوعاً استجابة لنداء القادة العرب بالرحيل حتى يحضروا لعودة ظافرة إلى وطنهم بمساعدة الجيوش العربية. وحتى اليوم مضى نحو ثلاثين عاماً على اعتراف المؤرخين الإسرائيليين أنفسهم بأن ترحيل الفلسطينيين عن أراضيهم كان يتم بناء على سياسة ممنهجة للتطهير العرقي والطرد الجماعي وإثارة الرعب والخوف، مترافقة مع حملة دعائية مغرضة غالباً ما كانت تظهر وجهها القبيح على مسرح الأحداث. وكان من الطبيعي ألا ينخدع القادة الإسرائيليون أنفسهم بهذه الكذبة الكبرى التي ابتدعوها. وسرعان ما اقتنعوا بأن الفلسطينيين لن يتنازلوا عن وطنهم من دون قتال. ولهذا السبب كانت الحركة الصهيونية تعتمد على استراتيجية النفاق والخداع فيما كانت تعمل وفق مبدأ يتلخص بجملة واحدة: «القوة هي التي تتفوق على الحق». وبكلمة أخرى، يجب مواجهة حق الفلسطينيين في وطنهم بالقوة، لأنها تمثل الخيار الوحيد الذي يسمح لإسرائيل بتجاوز مشكلة الحقوق المشروعة. وهنا تتضح مرة أخرى الحاجة إلى الحرب باعتبارها تمثل عنصراً متطابقاً مع الطبيعة العدوانية للحركة الصهيونية، وهي بالتالي أكثر انطواء على العوائد والفوائد من تحقيق السلام. وقد سبق لرئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق موشي شاريت أن قال في مذكراته: «ينبغي على دولة إسرائيل أن تخترع الأخطار ومظاهر التوتر. ومن أجل ذلك، عليها أن تجعلنا نعيش بشكل دائم على أمل اندلاع حرب جديدة مع البلدان العربية بحيث نتخلص خلال تلك الحرب من مشاكلنا الداخلية ونكسب المزيد من المجال الحيوي». وسرعان ما واجهت محادثات السلام الفلسطينية- الإسرائيلية بعد انطلاقها جملة من العقبات والصعوبات تتعلق بالخلاف على المبادئ الأساسية، والفرق الشاسع بين مطالب الفريقين، وعدم التكافؤ في وضعهما التفاوضي. وبعد أن تمكن كيري من فهم واستيعاب كل هذه الأمور، راح يبذل جهوداً جبارة، وذهب في إطار سعيه لتقريب وجهات النظر بين الطرفين إلى ترتيب إطار أميركي لاتفاقية السلام المقترحة، وهو ما أثار موجة من الانتقادات والاتهامات ضده حتى أصبح ولاؤه لإسرائيل موضع تساؤل. وهذه كذبة أخرى لأن هذا الولاء غير قابل للجدل أو النقاش وفقاً لما يقوله هو بذاته. وبدوره عمد كيري إلى دحض تلك الاتهامات عندما أعاد التذكير بمواقفه الداعمة لإسرائيل عبر تاريخه السياسي. ولعل مما يستثير الدهشة أن يضطر وزير خارجية دولة عظمى لأن يقول في معرض الدفاع عن نفسه ضد هذه الاتهامات: «لقد حصلت على نسبة 100 في المئة في سباق التصويت على أكثر نواب الكونجرس دعماً لإسرائيل خلال السنوات التسع والعشرين التي قضيتها في مجلس النواب». وينبغي علينا أن نضيف أيضاً أن اتفاق الإطار الذي حضّره كيري أشار فيه إلى تأييد نتنياهو في طلبين رئيسيين هما: اعتراف الفلسطينيين بيهودية دولة إسرائيل، والترتيبات العسكرية التي تقضي ببقاء جنود إسرائيليين على الجانب الفلسطيني من الدولة الفلسطينية الجديدة. وفي تصوّرنا أن القادة الإسرائيليين شعروا بخطر عملية السلام. كما أن الأميركيين ذاتهم توصلوا إلى استنتاج مماثل. فلقد تناقلت الصحافة مؤخراً جملة تقول: « يرى كبار المسؤولين الأميركيين أن الهدف الأساسي من الهجوم على المواقف الأميركية هو إخراج عملية السلام عن مسارها».