للمرة الثالثة في أقل من ثلاثة أعوام، ذهب المصريون إلى صناديق الاقتراع للموافقة على وثيقة الدستور الجديدة أو رفضها بعد أن أنجزتها «لجنة الخمسين» وقدمتها للرئيس المؤقت عدلي منصور. وقد أعلن عمرو موسى رئيس اللجنة في مؤتمر صحفي أن وثيقة الدستور تتعامل مع الظروف الخطيرة التي تمر بها مصر في الوقت الراهن. وأضاف «إن ذلك يفسر بشكل مقنع الأسباب وراء اختيار المؤسسات التي يؤكد عليها الدستور الجديد: الجيش والقضاء والقيادة الدينية المعتدلة والمستنيرة المتمثلة في الأزهر الشريف، والتي تمثل الركن الأساسي في الهوية الوطنية». وفي مقال رأي نُشر الأسبوع الماضي في صحيفة «نيويورك تايمز»، أكد موسى أن الدستور الجديد أكثر شمولية من ذلك الذي تم إعداده في عهد مرسي. وتابع «أنه يشمل حقوق المرأة والشباب وكافة الجماعات الدينية بما فيها المسلمون، وطوائف المجتمع المسيحي الثلاث». وأكد موسى أنه «من بين اهتماماتنا الأساسية إنشاء نظام حكم قابل للمحاسبة، بما في ذلك -وبصورة خاصة- الجيش المصري». وأضاف «إن الوثيقة الجديدة تمنح البرلمان سلطة سحب الثقة من الرئيس إذا انتهك الدستور». ولكن إذا كان هذا البند من المحتمل أن يقلص صلاحيات الرئيس، فليس من الواضح كيف يمكن بموجب الدستور الجديد إخضاع الجيش للمحاسبة في ضوء الصلاحيات الواسعة نسبياً التي يتمتع بها في الوثيقة الجديدة، بما في ذلك سلطة رفض تعيين وزير الدفاع. ويبدو أن دستور 2014 يقتفي أثر النموذج التركي حيث تبرز المؤسسة العسكرية القوية كمركز قوة مواز، ويتمتع بتحصين من رقابة المدنيين، ويعتبر كحارس للدولة التركية الحديثة العلمانية. وتم تأسيس مجلس دفاع وطني (بموجب المادة 197) في مصر على غرار النموذج التركي، وعلى رغم ذلك، ربما يمنح الدستور الجديد الجيش المصري صلاحيات أوسع من نظيره التركي، ولاسيما أنه يتيح محاكمة مدنيين أمام محاكم عسكرية طالما اتُهموا في جرائم ضد القوات المسلحة. وقد أيدت كافة المؤسسات الثلاث البارزة في مصر في الدستور الجديد الإطاحة بنظام الرئيس السابق مرسي. ويعكس الدستور الجديد بصورة منطقية سيادة القوى الاجتماعية المؤيدة بملايين المصريين الذين نزلوا إلى الشوارع في الثلاثين من يونيو الماضي لرفض ما قرروا أنه فشل الرئيس المعزول مرسي والحكم المنتمي لجماعة «الإخوان المسلمين». وفي مقال سابق، كتبت أن الدستور الذي تم إعداده في عهد مرسي بدا وكأنه منبر دعائي في حملة انتخابية أكثر منه وثيقة دستورية تؤسس لحكم ديمقراطي. وفي الدستور الجديد توصيف وتحديد لصلاحيات الحكومة والدولة، وتصف الوثيقة الجديدة وتوسع التزاماتهما تجاه أفراد الشعب المصري لتمتد إلى حماية الأخلاق العامة، مُشكّلة مستوى مرتفعاً من القيم الدينية والوطنية والتفكير العلمي، كما في المادة الحادية عشرة. وعلاوة على ذلك، يلزم الدستور الجديد الدولة أيضاً بتحقيق دولة رفاه ضخمة، إذ تلزم المواد من 18 إلى 21 -على سبيل المثال- الدولة بتقديم تأمين صحي شامل لـ«جميع المصريين». كما تلزم الحكومة بإنفاق ما لا يقل عن 3 في المئة من إجمالي الناتج القومي على ذلك. وتلزم المادة التاسعة عشرة الحكومة كذلك بإنفاق ما لا يقل عن 4 في المئة من إجمالي الناتج القومي على التعليم، وما لا يقل عن 2 في المئة على التعليم العالي. ويحسب للدستور الجديد أيضاً أنه يؤيد بقوة الحريات المدنية والأساسية، إذ تكفل المادة 33 مساواة جميع المواطنين أمام القانون، وينص على أن الحرية الفردية حق طبيعي تتم حمايته ولا يجوز انتهاكه كما في المادة 34، ولا يجوز اعتقال أي شخص أو احتجازه من دون حكم محكمة كما في المادة 35. وينص الدستور أيضاً على أن أي تصريح يتم الحصول عليه تحت الإكراه يعتبر باطلاً ولاغياً حسب المادة 37، ولا يجوز انتهاك الحياة الخاصة للمواطنين بموجب المادة 38. وتعتبر حرية العقيدة حقاً أصيلاً، ويتم أيضاً ضمان حرية الفكر والرأي حسبما تنص المادة 33. وعلى رغم ذلك، فإن التنازلات التي تم تقديمها للمؤسسة العسكرية في الدستور الجديد يمكن أن ينتقدها البعض. وسبب ذلك أن تلك التنازلات في رأيهم قد تنتهك بعض أسس الديمقراطية، أو قد لا تحدث توازناً بين السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية. وربما تسمح بمحاكمة مدنيين أمام محاكم عسكرية، وهو ما قد يثير بعض القلق بشأن حماية الحريات المدنية، وعلاوة على ذلك تعزز تمتع الجيش بحكم ذاتي قد تؤثر على مبدأ الديمقراطية الأساسي الخاص بالإشراف المدني على المؤسسة العسكرية. ولكن على رغم كل ما قد ينتقد به الدستور الجديد إلا أن الموافقة عليه من قبل الشعب المصري ترتكز بصورة أساسية على شعبية الجيش الوطني في مصر إلى جانب ضرورته من أجل بناء مؤسسات الحكم الديمقراطي.