العرب بين الأصوليات والتحديث!
تعتبر ظاهرة الأصولية من الظواهر القديمة المتجددة، فقد ارتبطت المجتمعات منذ القدم بوجود ظواهر اجتماعية يرتبط بعضها بالدين، بينما يرتبط البعض الآخر بالعرق أو العنصر، ولاشك الدين والعرق هما من بين المقومات الأساسية للهويات الإنسانية، إلا أن الفهم الخاطئ لمضامين هذه المقومات يدفع بالإنسان إلى الغلو أوالتطرف فيهما، وقد شهدت معظم المجتمعات الإنسانية خلال فترة من حياتها ارتفاعاً في صور الأصولية، وهذا ما حدث في العالم العربي خلال العقود المتأخرة ببروز ظاهرة الأصولية التي ارتبطت بالدين الإسلامي أو المسيحي بشكل مباشر.
وعلينا ونحن نتحدث عن ظاهرة الأصولية أن نفرق بين الدين أو حالة التدين الشخصي، والتي تدخل في مجال الحريات العامة، وبين الأصوليات كظاهرة مركبة بين الديني والاجتماعي والسياسي، ولعل الكثير من أسباب بروز هذه الظاهرة يعود إلى محاولة البحث عن الذات في عالم يتم تحديد مكانة أعضائه من خلال دورهم وإسهامهم الإنساني.
فقد تراجع دور العرب وتوزعت شعوبهم ودولهم منذ ما يزيد على مائة عام، وغاب دورهم عن المشاركة مما دفع الكثير من أبنائهم للبحث عن حضور على الساحة الدولية.
وقد شكلت الدولة الوطنية الحديثة فرصة لهذا الحضور إلا أن هذه الدولة حاولت نقل صورة الدولة الوطنية الأوروبية لتطبقها في العالم العربي ، فارتكزت على العنصر القومي، وشهدت مرحلة النصف الأول من القرن العشرين ارتفاع ما يمكن تسميته
بـ"الأصولية القومية ".
وعلى الرغم من أن هذه الدعوة استطاعت أن تحفظ لكثير من الدول العربية وجودها واستقلالها، فإنها لم تحقق لها المنظور الذي كانت تسعى إليه.
وقد تراجع دور الدولة القومية في العالم العربي، ولم تتحقق الأهداف التي يسعى لها العربي على الصعيدين السياسي والتنموي، إذ مازالت أهم قضية عربية وهي القضية "الفلسطينية"معلقة، بل ازداد الأمر سوءاً بما وصلت إليه القضية الفلسطينية في المرحلة الأخيرة، إضافة إلى مشكلات سياسية أخرى استجدت على الساحة العربية في السنوات الأخيرة كالعراق ولبنان والصومال وقضايا الخلافات العربية السياسية. أما على المستوى التنموي، فإن المؤشرات تدل على عدم تحقيق أي منجز تنموي يذكر، إذ مازلت نسبة التعليم متدنية عدى عن محتوى هذا التعليم ، إلى جانب عدم تحقيق تقدم على المستوى العلمي أو التقني أو توفير متطلبات الحياة اليومية للإنسان العربي، مع تنامي في مؤشرات سلبية كالفقر والبطالة والمرض والتشرد، وغيرها من المؤشرات التي دفعت الإنسان العربي للبحث عن بديل يجد فيه ذاته، ويميزه عن الآخرين ويستطيع أن يحقق له حضوراً على المستوى الإنساني، فكانت ظاهرة العودة للدين بصورة واضحة في الحياة العربية.
فقد أظهر استطلاع أجراه معهد جالوب الأميركي، شمل 143 دولة وشارك فيه 1000 شخص أن نسبة التدين في العالم العربي مرتفعة جداً إذا قورنت بالدول الأخرى. وتصل في بعض البلدان العربية إلى نسبة 98 في المئة، بينما وصلت في دول عربية أخرى كلبنان مثلاً إلى 86 في المئة.
ويرى القائمون على الاستطلاع أن القاسم المشترك بين المجتمعات الأكثر تديناً هو الأوضاع الاقتصادية، حيث تشير نتائج الاستطلاع أن ثمانية من أصل 11 دولة الأكثر تديناً حول العالم هي من الدول الفقيرة، بينما الدول الأقل تديناً في القائمة هي دول غنية ومنها السويد واليابان.
وإذا كان البحث عن الذات يشكل أحد الأسباب المؤدية إلى بروز ظاهرة الأصوليات فإن فشل عمليات التحديث يشكل سبباً آخر لهذه الظاهرة.
فعلى المستوى الفكري التنويري لم يستطع العرب "بلورة " مشروع نهضوي خاص بهم على الطريقة اليابانية مثلاً ، وعدا عن "تجارب" تاريخية كتجربة محمد علي في مصر، وتجربة الإصلاح الديني التي تبناها بعض علماء الدين كرفاعة الطهطاوي وجمال الدين الأفغاني ومحمد عبده، التي لم يكتب لها النجاح والاستمرار.
فإن العالم العربي لم يشهد تجربة نهضوية تنويرية واضحة، بل ربما أدت بعض المواقف الفكرية لصدام بين تلك المشاريع التحديثية والمجتمع العربي.
وقد عزز ذلك الكثير من الكتابات والمؤلفات التي كانت تعالج القضايا الدينية بروية تتجاوز الروية النقدية للفكرة إلى نقد الدين ذاته، مما أوجد حالة من الصدام بين ما يمكن تسميته بـ"القوى المحافظة " والقوى "التنويرية"، التي عُلقت على شماعتها كل التجاوزات التي ترتكب في هذه المواجهة، كما أن القوى التنويرية والتحديثة العربية لم تفرز بين الفكرة "التحديث" والممارسات التي يمكن أن تتم تحت هذه اللافتة، فترسخت في مخيلة كثير من العرب أن التحديث أو التنوير هما ضد الدين، فانكفاء البعض إلى "الدين" لأنه أكثر ترسخاً وتأثيراً في حياته، جعل العالم العربي يخسر قوى يمكن أن تسهم في إيجاد تيار تنويري يقوم بعملية التحديث ويخرج العرب من أزمتهم الحضارية.
إن العرب بحاجة إلى مشروع تنويري ينقلهم إلى المعاصر دون أن يتصادم مع مسلماتهم الدينية حتى يحقق لهم ذاتهم التي يبحثون عنها.