كنا في ما مضى نتحدث عن الهوة أو الفجوة بين الأجيال، وذلك من خلال ما كنا نلاحظه من تزايد الابتعاد بيننا وبين الجيل السابق لنا، وحاولنا أن نبرر ذلك بعوامل عديدة منها ماله علاقة بالتعليم وتطور الوضع الاقتصادي، وانعكاس ذلك على الأوضاع الاجتماعية، إلا أن احترامنا للجيل السابق، لم يسمح لنا بتوجيه النقد اللاذع له، فهو وفي كل الأحوال، ذلك الجيل الذي تحمل قسوة الحياة، وناضل من أجل خلق ظروف أفضل لمن بعده. كان الفكر السائد حين ذاك امتداداً للمرحلة العثمانية بكل ما تحمله من تخلف ونكوص إلى مراحل عميقة في التاريخ العربي والإسلامي، وكان الحديث ممنوعاً في الثالوث المحرم، الدين، والجنس، والسياسة. ولعل جيلنا يتذكر ذلك الكتاب حول الثالوث المحرم، أو غيره من الكتب ومنها كتاب جلال صادق العظم، إلا أن الأمل في التغير كان هو السائد. كانت تلك المرحلة هي مرحلة الشباب، وهي مرحلة العمل من أجل التغير والتطور واللحاق بركب الحضارة العالمية. كان الأمل كبيراً في التحول نحو مجتمعات جديدة ومجتمعات الدولة الحديثة، ولم يكن من المستغرب أن ينخرط شباب تلك المرحلة في الحركات السياسية لكافة الأطياف وكل الاتجاهات ولعل تلك المرحلة هي كانت مرحلة التطرف السياسي. فالنموذج كان "تشي جيفارا" في كوبا وطفول في عمان. كانت الموجة هي التغير الجذري نحو عالم يسوده العدل والحرية والمساواة؟ عالم قد نراه اليوم خيالياً بعيداً عن الواقع وعن الحقيقة. ولكن كان في ذلك الزمن أقرب ما يكون إلى الحقيقة.
كان الأمل قريباً جداً في حل الصراع الدائم مع الإمبريالية وأعوانها من الصهيونية والرجعية التابعة. لم يكن جيل ذلك الزمان يدرك أن ما يجري على تلك الساحات ما هو إلا جزء ظاهر من تحالفات جديدة، بين النخبة الجديدة، سواء العسكر أو المثقفون وبين القوى التي كانت تتزعم إجهاض المشروع الإنساني من أجل غد أفضل للإنسانية. كانت مرحلة تزييف الوعي والإدراك بين المعلن الجميل من مقاومة الإمبريالية وبين تنفيذ خطط إجهاض النهضة والتقدم لهذا الوطن الممتد من الخليج إلى المحيط.
فكان ذلك الاتفاق بين خيانة الحلم الوطني، وتلك القوى التي كانت ترى أن القوى الجديدة قد تعيد إلى الأذهان حركة مقاومة الاحتلال، وكان الفاصل حين ذاك قتل أحلام الشباب في غدٍ جديد، أعوام بل عقود تمر وهناك من سرق الحلم ودمره. لم يكن هؤلاء واهمين أبداً كما لم يكونوا طفوليين كما يحلو للبعض أن يتصور.
قد يكونون مثاليين سلموا زمامهم لقوى صعدت على أجسادهم إلى هرم السلطة وعندما وصلت إلى القمة داست على من في القاع. هؤلاء هم العسكر الذين ركبوا الموجة. فبحجة أن تحرير الأرض المغتصبة يحتاج إلى قوة عسكرية، فرح المثاليون وهم يرون أبناءهم يتسلمون قيادة الجيوش التي ادعوا أن الحكام الخونة! قد منعوها من أن تقوم بدورها. وعندما وصل العسكر إلى الحكم كانت أولى مهامهم تدمير القوى السياسية الوطنية الصاعدة ومحاربة الأحزاب، وحكم الحزب الواحد القائد، ومن ثم ألغي الحزب، وبقى القائد، الذي تغوَّل على من سواه، وفجأة وجدنا أنفسنا نعود إلى ما كنا عليه قبل خمسة عقود. عاد الاستعمار "الكولونيالي"، وعاد الاحتلال وعاد إلينا من طردناهم بالأمس، وكان المطلوب منا أن نستقبلهم بأكاليل الغار، فلقد عادوا محررين، وليسوا محتلين. كيف سرق منا الحلم، من سرقه؟ ما هو مطلوب منا اليوم الدخول في نفس المعركة وبأدوات جديدة، كأن نخلد من ساهم في ذلك المشروع القديم على حساب القوى الشبابية التي تقاوم كل المشاريع وتسعى إلى أن يكون لها موضع قدم في عالم جديد، عالم تسعى إلى إيجاده. لقد ترك لنا الآباء أثراً طيباً أنهم عاشوا بؤس الحياة وشظف العيش، ليصلوا بنا إلى بر الأمان، تعلمنا من تعبهم وعرقهم، ودخلنا الكليات العسكرية بأموالهم.
نجحوا وفشلنا، اليوم كيف ينظر إلينا الجيل الجديد، هل ينظر إلينا باحتقار؟ أم أنه سيجد لنا الأعذار وسيحاول أن ينهض كما كنا نحاول منذ نصف قرن مضى، إنها حكاية جديدة ولكن ثوبها قديم، فهل نستمع إلى جيل اليوم بعقلية الغد؟ سؤال مطروح للمناقشة.