قبل خمسة أعوام استبدلت الأمم المتحدة لجنة حقوق الإنسان التابعة لها ذات السمعة السيئة بمجلس حقوق الإنسان، وهي الخطوة التاريخية التي كان الأمل معقوداً عليها لتدشين حقبة جديدة في العمل الأممي الرامي إلى حماية ملايين الأشخاص حول العالم. وفي هذا الإطار أجرى المجلس مؤخراً أول مراجعة يقوم بها للوضع العام لحقوق الإنسان في العام، وقد أصبح جلياً اليوم أنه بفضل الجهود التي بذلها أعضاء مجلس حقوق الإنسان حقق هذا الأخير تقدماً ملحوظاً في تعزيز حقوق الإنسان والدفاع عنها حول العالم، ومع ذلك يرى البعض أن المراجعة لم تفض إلى التغيرات الجوهرية التي كان يريدها بعض المتدخلين، بل إن أطرافاً ذهبت إلى حد دعوة الدول الغربية والديمقراطية إلى الانسحاب من المجلس، متجاهلين أنه بينما يتعين علينا تقوية المجلس ودعم جهوده لتحقيق المزيد من الإنجازات في مجال الدفاع عن حقوق الإنسان، لن يقود التخلي عنه إلا إلى تراجع احترام تلك الحقوق. ولعل الأحداث الأخيرة التي يشهدها الشرق الأوسط وشمال إفريقيا (العالم العربي) تظهر بوضوح الحاجة إلى هيئة عالمية تحظى بالصدقية والتوازن لكشف انتهاكات حقوق الإنسان والتخفيف من حدتها. فمعلوم أن مفهوم حقوق الإنسان ينهل من المبادئ الكونية، وعليه يتعين على الجميع المشاركة في الحفاظ عليها وتعزيزها، ولذا وحتى تكون هذه الهيئة فعالة عليها أن تكون مسؤولة أمام جميع بلدان العالم، وليس فقط أمام قلة قليلة، كما يتعين عليها أن تمثل الجميع، وهو بالفعل ما يحققه مجلس حقوق الإنسان الذي يضم ويمثل العديد من البلدان. وفيما يجادل البعض بأنه عبر تمكين الدول الاستبدادية من احتلال مكان لها في المجلس عن طريق الانتخاب، ستتراجع فعاليته، وأن الجهد المبذول لتطوير أسلوب عمل المجلس لا يتناسب مع التقدم البطيء لأعماله... داعين إلى عدم استنزاف المزيد من الطاقة والرصيد الدبلوماسي، والاكتفاء بدلا من ذلك بهيئات محلية ومنتديات مغلقة! لكن يتعين التذكير بأنه رغم المرات التي لم يحقق فيها المجلس بعض أهدافه ولم يقم بالمجهود الدبلوماسي اللازم، فإن تلك الانتقادات ليست كافية للتخلي عن المجلس. ولنتخيل مجلساً لحقوق الإنسان ليس مسؤولا إلا أمام بضعة دول هي ممثلة فيه، فهو في هذه الحالة لن يحظى بالمصداقية التي تخول له الحديث عن انتهاكات حقوق الإنسان، أو الضغط من أجل تغييرها. ففي غمرة "الربيع العربي" صوت مجلس حقوق الإنسان بالإجماع، بدعم من الجمعية العامة، على قرار تعليق عضوية ليبيا، كما أدان المجلس انتهاكات حقوق الإنسان في سوريا بأغلبية كبيرة، ما أرغمها على التراجع عن محاولة الانضمام للمجلس، فضلاً عن تعيين لجنة تحقيق في خروقات حقوق الإنسان داخلها. وبالطبع لم يشكك أحد في صدقية المجلس لأنه هيئة تمثل الجميع. والأهم من تشكيلة المجلس التي تمنحه الصدقية والتوازن، هناك أيضا الأعضاء الذين بدؤوا يتحررون من القيود القديمة القائمة على التوزيع الجغرافي، مفسحين المجال أمام تعاون أكبر لدعم حقوق الإنسان. وهكذا بدأت تختفي التقاليد القديمة في التصويت على أساس الكتل الجغرافية، ليحل محلها النقاش العام والتداول حول القضايا ذات الاهتمام المشترك. ولا شك أن هذا الانخراط الواسع من قبل الدول جعل المجلس أكثر فاعلية وتقدمية من باقي المؤسسات المعنية بالدفاع عن حقوق الإنسان. وفي شهر يونيو الماضي خطى المجلس خطوة تاريخية بالدفاع عن حقوق المثليين ووقف التمييز ضدهم على أساس الميول الجنسية، هذا الجهد قادته جنوب إفريقيا ومعها دول مثل البرازيل وكولومبيا والولايات المتحدة، رغم معارضة بعض الدول، وما كان للمجلس أن ينجح في الاستجابة السريعة لانتهاكات حقوق الإنسان في إيران وليبيا وسوريا لولا الدعم الذي لاقاه من البلدان الإفريقية التي رفضت الانحياز للظلم والقمع، ودول أميركا اللاتينية التي جربت الاستبداد وحكم العسكر، بل حتى من دول في الشرق الأوسط. ورغم أن الانخراط في الجهود الدبلوماسية لإقناع الدول وتغيير الديناميات السياسية، ينطوي على بعض الصعوبة والجهد، فإن ذلك كان دائماً موجوداً، إذ من غير المتوقع التوصل إلى تفاهمات سريعة بين بلدان مختلفة تتضارب وجهات نظرها ورؤيتها للعالم. ومع ذلك يبقى من المهم القيام بهذا الجهد والمضي فيه قدماً. ولا ننسى أن حقوق الإنسان تحتل مكانة مركزية في هوية الأمم المتحدة، كما أنه منصوص عليها في ميثاقها وفي الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، ومازال الناس في كل البلدان ينظرون إلى الأمم المتحدة لحماية تلك الحقوق والدفاع عنها. ولو تركنا المجلس يفشل، وهو ما سيحصل في حال قلصت الدول الديمقراطية التزامها تجاهه، فإننا سنفسح المجال أمام الأنظمة المستبدة للتحكم في الأمور والدّوْس على حقوق الإنسان، وهو ما يرقى إلى خيانة هؤلاء الذين قد يصبحون في المستقبل هدفاً للاستبداد والقمع والعنف. فهؤلاء الناس يعولون على حماية الأمم المتحدة مهما كان عملها قاصراً، بل يعولون أكثر على البلدان الملتزمة بحقوق الإنسان لمناصرتهم والوقوف إلى جانبهم. ورغم الصعوبات التي تكتنف هذه المهمة والعراقيل التي تعترضها، فإنه لا مهرب من الاستمرار في دعم حقوق الإنسان عبر التزام الدول كافة بدعم مجلس حقوق الإنسان وتمكينه من الآليات الضرورية لاستكمال دوره والنهوض بأعبائه. كوفي عنان أمين عام الأمم المتحدة السابق ينشر بترتيب خاص مع خدمة "كريستيان ساينس مونيتور"