لست ممن يعتقدون بالقدرية، أو أن الإنسان يتحكم به ما هو مكتوب، بل العكس من ذلك فإن الإنسان هو الذي يتحكم بمصيره فهو مخير وليس مسيراً. إلا أنه في بعض الحالات الحالكة أو تلك السوداوية، مثل خبر وفاة إنسان عزيز لا مثيل له بين الأعزاء ربما يجعلك تتخلى ولو لحظات عن عقلانيتك وتدخل في عوالم الروحانيات والرومانسية المفعمة بالحزن.
"إميل" صديق لبناني. إنسان بسيط مارس ما يؤمن به من مُثل أخلاقية، مستمدة من الفلسفة المثالية والتي لا تختلط مع المادية في نظرتها للحياة. كان إنساناً رائعاً يفكر بالآخر قبل أن يفكر بالذات. عاش حياته مع الآخرين. مع العامل في المصنع، ومع المزارع في الحقول، ومع المثقفين في تقلباتهم الفكرية. كان يعتقد أن الحياة مع الطريق، ومع العمل الدؤوب ومع الفكر، وأنها مع البشرية في نضالها ضد كل من يحاول أن يقتل ذلك الجانب المضيء من حياة البشر. كان يؤمن بالجميل في حياة الإنسان، وكان يؤمن بكل ما جاء في كتاب "إميل" للمفكر الفرنسي جان جاك روسو. كان يعشق ذلك الزمن الجميل من حياة الفلاسفة والمفكرين... فترة التحول من الإقطاعية إلى بداية مرحلة الحياة البرجوازية ثم الثورة ضد الإقطاع . كان يناضل ضد القرار الفردي وضد الحزبية ذات الاتجاه القمعي، وكان مع كل من يحارب نفوذ الديكتاتورية ولو كانت ذات راية تقدمية. كانت الصورة لديه واضحة، وكان يعتبر أن عودة ستالين في حياة الأمم هي الكارثة. كان مع الديمقراطية وإن نادت بها ورفعت شعارها الرأسمالية.
أدرك منذ سكونه في مدينة براغ أجمل المدن الأوروبية وربما أقدمها أن الحياة ليست سوى حرية الإنسان وإدراكها بشكل حقيقي، وأن الروابط العائلية ليست هي الحل الأمثل للتخلص من مراحل التخلف وأن سيطرة العائلة لا يمكن أن تكون بديلاً عن العلم والتقدم العلمي.
أدركت منذ البداية أن إميل صديقي مثل مشروع جان جاك روسو في كتابه التاريخي "إميل"، وأن التعامل معه لابد وأن يتم من خلال فهم تلك العقلية التي تقف ضد التحجر. ذلك الإنسان الرائع الذي يرفض الهيمنة ضد كل أشكال التحكم بالإنسانية. أتذكر روسو في ذكرى وفاة صديق رحل تاركا آثاراً جميلة تؤكد على أهمية القيام بدور تاريخي.
و يبقى إميل وغيره من الأفراد ذكرى شريط حلم إنساني من أجل البقاء. هدفهم الرئيسي أن يحترم من كان يحلم برسالة، معتبرين أولئك الذين رفعوا راية التقدم والحرية ولم يلتزموا بها معاول هدم في المجتمع. مثل هؤلاء الناس أياً كان موقعهم وأياً كانت مواطنهم هنا في وطننا العربي أم في الغرب أم في القارة السوداء هم نماذج حياة ضربت بها الأمثال في خدمة المجتمع وفي تحقيق حلم الحرية لأوطانهم.
مثل هؤلاء عندما أنجزوا مهمتهم سلموا المناصب طواعية لمن يكمل المشوار. لم ترق دماء، ولم تتحرك دبابات أو طائرات، ولم تمتلئ السجون والزنازين بأصدقاء أو أعداء الأمس. أما في آسيا حيث أقدم وأعرق ديمقراطية تجمع مئات الأعراق والأديان والطوائف وحيث ينام الناس على الأرصفة ومداخل العمارات ولكنهم جميعاً يشعرون بنعيم الديمقراطية التي تنتقل بالسلطة من اليمين إلى الوسط إلى اليسار بكل انسيابية وشفافية يحسدهم عليها حتى أولئك الذين تمتلئ مدنهم بالعمارات الشاهقة ويركبون السيارات الفارهة، فلقد أشعل غاندي شعلة الديمقراطية التي أكملها نهرو وبات من الصعب إطفاؤها. إن مثل هؤلاء يستحقون كل التقدير وسيظل تراثهم خالداً كما "إميل" جان جاك روسو الذي لم يشخ على مر الأزمان....
في وطننا العربي ترى هل سنظل لا نشعر بالحرية إلا عندما نتصفح "إميل" لروسو أو مسيرة الديمقراطية في الهند أو في جنوب أفريقيا أو السنغال حيث أخلى الشاعر الفذ سينغور موقعه في السلطة وانضم إلى ركب الشعراء الذين ينشدون للحرية.
تحية إلى كل هؤلاء، و تحية لـ"إميل"روسو، وصديقي "إميل" اللبناني الذي رحل قبل الأوان.