لقد كشفت المواكب الحزبية الضخمة التي نظمها الحزب الشيوعي الحاكم في كوريا الشمالية خلال الشهر الجاري عن أول انطباع حقيقي عن الزعيم الجديد المقبل في بيونج يانج. فقد كانت تلك هي المرة الأولى التي يظهر فيها كيم جونج إيون، النجل الأصغر للقائد "العزيز" كيم جونج إيل، الذي كاد أن يلقب بخلف والده الزعيم القائد الذي يعاني من مشاكل صحية مزمنة، وذلك من خلال ترقيته إلى رتبة الفريق في الجيش الوطني، وإلى نائب أول لوالده في قيادة الحزب، بينما لا يزال عمره دون سن الثلاثين. ففي دولة عرفت بعزلتها الدولية بل الإقليمية المطلقة، إضافة إلى كراهيتها للأجانب، كثيراً ما شاع أن للجنرال -القائد الجديد المرتقب- خلفية نشأة كوزموبوليتانية منفتحة على العالم. كما يعتقد بقدرته على التحدث ببعض الألمانية والإنجليزية بسبب تلقيه دراسته الجامعية في سويسرا. ويشير مزاجه الشخصي إلى شغف ما ببعض جوانب الثقافة الغربية مثل موسيقى البوب وإن بي إيه لكرة السلة. في الوقت نفسه تثني عليه الصحافة الكورية المحلية وتصفه بأنه "عبقري فذ". وبأن حكمته ومهاراته تفوقان كثيراً عمره الحقيقي، خاصة ما يتمتع به من براعة مذهلة في استخدام تكنولوجيا القرن الحادي والعشرين. وهناك في بعض لحظات التاريخ العالمي، من القادة الجسورين من تمكنوا من إحداث تغيير هائل وفارق في مسيرة أممهم ومجتمعاتهم. وعليه فإن السؤال الملح الآن: هل للجنرال "كيم الشاب" الجديد، من الشجاعة والقدرة ما يمكنه من إنقاذ أمته من ظلام القرون الوسطى الذي تعيش فيه؟ والإجابة كلا. وليست لذلك صلة بعمره أو صغر سنه. فقد كان جده الراحل "كيم إيل سونج" في عمر 33عاماً فحسب عندما اختاره القائد السوفييتي الأسبق جوزيف ستالين لتولي قيادة الحزب الشيوعي الكوري الشمالي عقب نهاية الحرب العالمية الثانية. وكذلك بدأ والده كيم جونج إيل الصعود إلى المراكز القيادية في الحزب، وهو في بدايات عقده الثالث أيضاً، بينما أعلنت خلافته لوالده في المنصب القيادي وهو في سن الثامنة والثلاثين. ومن منظور "أسرة كيم" الحاكمة، فإن اختيار القادة المقبلين في عز شبابهم، هو شرط أساسي لضمان استمرار كل واحد منهم في الحكم لمدة تتراوح بين أربعة وخمسة عقود متصلة. فالمشكلة ليست في الأفراد، إنما في النظام السياسي الحاكم نفسه. وحتى إذا ما سلمنا بما يقال عن استنارة وانفتاح "كيم" الشاب المقبل، فإن هناك ثلاث عقبات رئيسية تعطل الإصلاح السياسي في بيونج يانج. أولاها أنه ليس في وسع النظام الحاكم في بيونج يانج- البقاء دون سند أيديولوجي يبرر به إمساكه بالسلطة. والأيديولوجية التي سوف تصحب القائد الشاب عند صعوده إلى سدة الحكم، تبدو ارتدادية وليست تقدمية بأية حال. ومن جانبي أفضل تسمية هذا الإرث بـ"أيديولوجية الاعتماد على الذات"، التي كانت قد اتبعتها بيونج يانج في عقدي خمسينيات وستينيات القرن الماضي، عندما كان الأداء الاقتصادي لكوريا الشمالية أفضل حالاً من أداء جارتها الجنوبية. ولكن يعود سبب تأخر بيونج يانج فيما بعد إلى تقديمها للأولويات العسكرية على غيرها -بما فيها التنموية- وهو ما دفعها إلى هوس الإصرار على بروزها باعتبارها قوة نووية. فكان ذلك على حساب تقدمها الإنمائي الاقتصادي. ثانية العقبات، أن إجراء إصلاح سياسي حقيقي في ظل قيادة كيم الشاب، يتطلب جرأة كبيرة وقدرة على إرخاء أدوات السيطرة السياسية التي تمكن النظام من إحكام قبضته الحديدية على المواطنين. وتتلخص المعضلة التي يواجهها القائد الشاب في أن الإصلاح يمثل ضرورة لا بد له منها كي يتمكن من البقاء سياسياً، غير أن عملية الانفتاح السياسي سوف تؤدي حتماً إلى إرخاء السيطرة السياسية التي يقوم عليها النظام الحاكم. ولعل هذا التناقض هو الدرس الأهم الذي تعلمته بيونج يانج في مرحلة ما بعد نهاية الحرب الباردة. أما العقبة الثالثة والأخيرة، فهي أنه حتى وإن كان الشاب كيم جونج إيون، قائداً مستنيراً منفتحاً وله من الجرأة والقدرة على اجتراح الإصلاحات، فإنه سوف يواجه أجيالاً متصلة من المؤسسات والبنى الاجتماعية والاقتصادية والثقافية، هي الأكثر عزلة في تاريخ كوريا الشمالية. فبالمقارنة مع ما عليه الأمور خلال العقود الأخيرة التي تلت نهاية الحرب الباردة، يلاحظ أن جيل جنرالات الجيش والمسؤولين الحزبيين وبيروقراطيي الدولة خلال حقب الحرب الباردة، كانوا أكثر انفتاحاً على العالم الخارجي. وكان معروفاً عن الزعيم الراحل كيم إيل سونج أنه يقضي عطلاته مع أصدقائه ونظرائه من قادة الأحزاب الشيوعية الأخرى، مثل "إريك هونيكر" في ألمانيا الشرقية، ونيكولاي شاوشيسكو في رومانيا. وعلى نقيض ذلك فقد رأى جيل "كيم جونج إيل" شاوشيسكو يعدم أمام شعبه الروماني في ميدان عام، بينما كاد الحزب الشيوعي الصيني يفقد سيطرته على مواكب المتظاهرين المحتجين في ميدان تيانامين، كما شهد انهيار حائط برلين وسقوط الاتحاد السوفييتي نفسه. خلاصة القول، فإن الجيل الذي يرثه القائد الشاب، لم ير في العالم الخارجي ما "يفتح النفس" أو يغري بالتواصل معه. وهذا ما يرجح استمرار عزلة بيونج يانج في ظل قيادة كيم الشاب المقبل. وفي كل ذلك ما لا يرجح آمال التغيير أو الإصلاح هناك. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ينشر بترتيب خاص مع خدمة "واشنطن بوست وبلومبرج نيوز سيرفس"