خلال السنوات الأخيرة اتسعت ظاهرة الدعاة "الجدد" التي امتلأت بها الفضائيات العربية للدرجة التي لا ترى فيها فضائية إلا ولأحدهم ظهور فيها، وعادة ما يتعمد هؤلاء الإثارة الإعلامية، حين يضخم الأمور لاستقطاب وسائل الإعلام. ومما لا شك فيه أن ظاهرة الدعاة "الجدد" جديرة باهتمام الصحفي الذي يبحث عن كل جديد، إلا أن هؤلاء الدعاة أصبحوا ينافسون الصحفيين في عملهم حيث توفر لهم القنوات الفضائية مساحات كافية لإطلاق تصريحاتهم المثيرة بين وقت وآخر، ولكن ما هو المغزى من هذه التصريحات التي لا تعدو كونها "مهايط" حسب العامية الخليجية. منذ عدة أعوام مضت، والدعاة "الجدد" يتصدرون وسائل الإعلام، ويسعون جاهدين للمحافظة على البقاء تحت الضوء باستمرار، ولن يكون هناك بقاء لهم تحت الضوء الإعلامي إلا عبر تكرار مثل هذه التصريحات المثيرة للجدل ليتم من خلالها استقطاب الجمهور وتنمية أعداده، وهذا يحدد أسعار العقود مع الفضائيات وتواقيت برامجهم فيها، وأسعار المشاركة في الندوات والتجمعات التي يشترطون ميزات خاصة " لقبول المشاركة فيها، بدءا من قيمة العقد، وانتهاء باسم الفندق ونوعية الغرفة فيه ودرجة بطاقة السفر للداعية ومرافقيه!. بريق أضواء وسائل الإعلام، وحجم العائدات المالية من ظهورهم، جعلت من الصعب عليهم الاستغناء عنه، وهذا شعور إنساني، اعتقد أنه يشمل كل بني الإنسان، لكن المبالغة في الاحتفاظ بالأضواء مسلطة دائماً على الداعية، جعلته يتجه نحو مبالغات متكررة ربما تفقده مصداقيته. الدعاة "الجدد" أصبحوا مثلهم مثل غيرهم من أصحاب المهن الشريفة، يسعون لكسب قوتهم كباقي بني البشر، ويتنافسون للحفاظ على تقدمهم المهني والمحافظة على جماهيريتهم كغيرهم؛ فلماذا يتم تضخيم ما يقومون به؟! بدأت ظاهرة الدعاة "الجدد" في التشكل منذ جمع التبرعات للمتضررين في أفغانستان جراء حروبها الأزلية، وربما أن كثرة الأموال فتقت أذهانهم للبحث عن الجمهور، وبعد ظهور القنوات الفضائية وكثرتها، أصبح لهم سوق رائجة يستدعي التنافس فيها للبقاء في المقدمة دائماً. شبه أحد الأصدقاء هؤلاء الدعاة بـ"المحرّج"، وهو الشخص الذي يسوق للسلع المستعملة الرخيصة في أسواق تُسمى بالعامية الخليجية "الحراج"، وأتذكر قصة أقدم سوق حراج في الرياض واسمه حراج "ابن قاسم"، ويقع جنوب العاصمة السعودية، حيث كان ابن قاسم معروفاً عنه حلاوة اللسان وسحر البيان، وصاحب نكتة تَجمع حوله المتسوقين، ويستطيع بأسلوبه اللبق أن يبيع كل ما لديه، ما آثار منافسيه الآخرين، وحرك غيرتهم منه لعدم اتقانهم لأسلوبه الذي هو موهبة من الله، وتقدموا بشكوى إلى أمير المنطقة حينها، الذي أمر بأن يخرج ابن قاسم خارج المدينة، ويحرج على مايشاء من بضاعة مطروحة في السوق، وحين نفذ ابن قاسم الأمر وامتثل بالانتقال إلى خارج المدينة، لحق به (المحرجون) الآخرون الذين قدموا الشكوى فيه، وذلك لعدم وجود مشترين في سوقهم لأنهم ذهبوا إلى الشهير ابن قاسم، وتشكل منذ ذلك الوقت سوق ما زال يعرف إلى اليوم باسمه. نعم...فالهدف هو جمع أكبر عدد من الجمهور، سواء كانوا مشترين في سوق أو مشاهدين لأحد البرامج، وهذا يعود ريعه إلى "المحرج" نفسه، الذي يرتفع سعر عقده مع فضائيته مع ارتفاع عدد مشاهدي برنامجه، والذي يستقطب معلنين كثرا، مما يجعل الفضائية تتمسك بهذا "المحرج" الماهر الذي يستطيع استثمار شغف الصحافة بالبحث عمّا ينشر، ويقوم به لصالحه! ليس ذنب الدعاة "الجدد" كثرة جمهورهم وتنامي جماهيريتهم، فهم لم يجبروا أحداً على متابعة برامجهم، هم يستخدمون أساليب متقدمة للتسويق فقط، لكن هذه الأساليب هي التي أجبرت هذا الجمهور العاطفي على متابعة برامجهم، والمسؤولية تقع على من يتابع لا من يسوق. يملك الدعاة "الجدد" ملكة كلامية فائقة منْ بها الله عليهم، ولكنك حين تحاول إيجاد ما يفيد من النواحي العلمية في هذا الكلام بعد قراءته مكتوباً، لن تجد سوى ما يذكرك بمقولة شعبية قديمة "أي كلام يا عبد السلام"، وهذا يذكرنا بصدق نظرية اطلقها عبدالله القصيمي قبل أكثر من 60 عاماً، مفادها أن العرب ظاهرة صوتية، باستعراض خطب وتصريحات هؤلاء الدعاة "الجدد"، نجد أنه لا هدفاً واضحاً لهم، سوى الإثارة فقط التي تهدف إلى جذب أكبر عدد ممكن من الجمهور، وهذا يترجم في العقود المبرمة بين هؤلاء الدعاة والقنوات الفضائية، وليس هناك أهداف أخرى تحتوي عليها خطبهم وتصريحاتهم، وهذا حقهم في كسب رزقهم. ولكن هل تتحول قيمنا الدينية إلى مجرد مصالح شخصية يستثمرها هؤلاء الدعاة "الجدد" لمصلحتهم بحيث يصب ريعها في حساباتهم.