أظهرنا في المقال السابق حجم التناقض الذي ينتهجه تنظيم "القاعدة" بين المعتقد والسلوك، وذكرنا عدة أمثلة تثبت ذلك، ونحاول اليوم تسليط الضوء على ميكافيلية "القاعدة" على رغم زعمها تطبيق شعاراتها الدينية! إن الإسلام دين تراحم وتواصل، ولم يكن قط ديناً مصلحيّاً يقوم على الغايات الدنيوية، على رغم وجودها فيه، إلا أن ركائزه روحانية صرفة تتجلى فيها العبادة المخلصة لله وحده. دين سماحة مع الآخر في فلسفته التي قامت على القراءة، والقلم وما يحيل إليه من فكر وحب للمعرفة في بناء الأرض وتعميرها وهي فطرة الإنسان الحقيقية، وليس على الدماء، وإلغاء الآخر بإزهاق الأرواح، وترويع الآمنين في أوطانهم. وقد تفاوتت ضربات "القاعدة" ضد أبناء الإسلام، وما زالت مستمرة تحت ذريعة نصرة الدين، وأغلب الضحايا هم من أتباع الدين نفسه الذي يدعي عناصر التنظيم حميتهم له وهبتهم للذود عنه، وفي هذا أظهرت دراسة أجراها مؤخراً مركز مكافحة الإرهاب في أكاديمية "ويست بوينت" العسكرية الأميركية أن عدد القتلى بين المسلمين نتيجة عمليات "القاعدة" يفوق بكثير نسبة القتلى من غير المسلمين، وتحريّاً للحياد اعتمد المركز في دراسته على ما نشر وبث في وسائل الإعلام العربية عن عمليات "القاعدة" في المنطقة خلال الفترة ما بين عامي 2004 و 2008، وكشفت الدراسة أن نسبة القتلى من المسلمين تجاوزت الـ85 في المئة من مجموع الضحايا، بينما كانت نسبة القتلى من غير المسلمين 15 في المئة. وذكرت الدراسة التي نشرت في مطلع العام الجاري أنه في الفترة من 2006 - 2008 لم تتجاوز نسبة ضحايا تنظيم "القاعدة" من الأجانب الـ2 في المئة، فيما حصدت تفجيراتها أرواح 98 في المئة من إجمالي الضحايا الذين أزهقت أرواحهم عبثاً في أكثر من 329 عملية إرهابية لـ"القاعدة" في مناطق متفرقة من العالم حسب رصد الدراسة خلال أربعة أعوام متتالية. إن هذه هي نظرية كتاب "الأمير" للمؤلف السياسي الإيطالي نيكولو ميكافيلي الذي عاش في القرن الرابع عشر للميلاد، وهي النظرية التي يعبر عنها في المقولة الشهيرة: "الغاية تبرر الوسيلة" التي استُنتجت من كتابه الشهير وتجاذبها كبار رجال السياسة الأوروبيين في وقته، واستمرت في الأزمان المتعاقبة بعده إلى مُحدث فرنسا شارل ديغول، وحتى الشيوعيون الأوروبيون لم يعفوا هذه النظرية هم أيضاً ففصلوها على مقاساتهم الواسعة، وقالوا إن هذه النظرية لا يمكن أن تطبق من قبل شخص وإنما حزب "ثوري"! ربما يقول قائل إن الشخص العادي في عصرنا الراهن يطبق هذه النظرية في حياته اليومية لكسب رزقه عبر أعماله المادية والغاية منها تدفع بني البشر لاتباع وسائل ربما تتنافى في بعض الأحيان مع المعتقدات، وتدفع للابتعاد عن القيم الإنسانية، وهذا واقع من وجهة نظري، إلا أن هذا التطبيق لهذه النظرية يأتي في سياقها الإيجابي، فهو بتطبيقه لها ينمي المجتمع ويدعم الحضارة والتمدن، وهذا يتنافى مع ما يقوم به تنظيم "القاعدة" الذي يهدم ولا يبني. قبل عقد من الزمان كانت للإسلام صورة جميلة في أعين الغرب، دفعت بأعداد كثيرة بينهم لاعتناقه رغبة منهم لاكتشاف زواياه الجمالية أكثر مما ظهر لهم، وما يحدث الآن هو نفور الغرب بطرق قاسية في أحيان كثيرة من هذا الدين، وتشويه صورته الجميلة بعد انكسارها في أعينهم، وهذا ما تثبته دراسات ميدانية كثيرة أجريت بهذا الصدد، كشفت تحول هذه النظرة من الزاوية الجميلة إلى زاوية الشك والريبة في كل ما هو إسلامي! لقد تعطل العمل الخيري الذي يمثل روح الإسلام في تقديم يد العون لكل محتاج، أيّاً كان دينه، فلا فرق بين عربي وأعجمي إلا بالتقوى، وذلك بعد ما قام به تنظيم "القاعدة" تحت شعار الحمية للدين، فهل هذا من الدين في شيء؟! لن أجادل في نصوص فقهية هي مثار خلاف أصلا في هذه المرحلة من الزمن، تلك النصوص التي تعتمد عليها "القاعدة" في تبرير أفعالها وتتخذ منها شعاراً لها، وتتمترس خلفها في ردها على من يخالفها الرأي، لأن جزءاً كبيراً من علماء عصرنا أثبتوا أنها نصوص مرحلية، وليست نصوصاً مستديمة، وينتفي تطبيقها لانتهاء مرحلتها، وخير ما يطبق كبديل لها هو فقه الواقع، والعمل به وفق منهجه الصحيح. وهناك جهات إسلامية كثيرة مدعومة من دول إسلامية كبيرة، تسعى بشكل دؤوب لتحسين صورة الإسلام في الغرب منذ مطلع الألفية الحالية وتحاول جاهدة تغيير الانطباع الذي ساد الغرب عن الإسلام، إلا أن ما توثقه عناصر تنظيم "القاعدة" بشكل شبه يومي في كافة أنحاء المعمورة يجعلنا نتذكر بيتاً من الشعر يتطابق مع هذه الحالة الغريبة وهو: متى يبلغ البنيان يوماً تمامه.. إذا كنت تبني وغيرك يهدمُ. فهل تتعمد "القاعدة" تشويه صورة الإسلام بأيدي أبنائه؟! تتخذ "القاعدة" من الميكافيلية منهجاً لها على رغم أنها نظرية لا دينية وتتنافى مع شعاراتها التي شنفت بها الآذان منذ عقد التسعينيات من القرن الماضي، وهذا يذكرنا بقول علي بن أبي طالب رضي الله عنه "كلمة حق أريد بها باطل"، وهذا ما تفعله "القاعدة" بالضبط اليوم، ترفع الشعارات الدينية كشعارات حق، لكن ما يُسعى لتحقيقه تحت هذه الشعارات هو الباطل بعينه! إن غاية "القاعدة" هي الوصول إلى الحكم حسب ما توهمها أجندات سياسية تدور هي في فلكها، وتتخذ أجساد المسلمين ودماءهم وأمنهم في أوطانهم وسيلة لتحقيق هذه الغاية، ولا تأبه بما يحاول الآخرون بناءه خدمة لأوطانهم ودينهم!