في البداية يجب أن نعترف أن خطاب الرئيس الأميركي باراك أوباما من مصر يوم 4 يونيو 2009، كان جديداً على السياسة الأميركية، ويتصف بالشجاعة والإقدام في طرح القضايا المختلفة، والواقعية في التناول، والوسطية النسبية في المعالجة، وكان موضوعياً في المقاربة. وحاول أوباما أن يستعرض رؤيته أو ربما توجهاته التي سيتعامل بها لحل هذه القضايا، ولكن في الوقت نفسه سعى إلى وضع أطر عامة تمثل أسساً وثوابت يمكن من خلالها التوصل إلى حلول ممكنة لهذه القضايا، ولكن ما يهمنا هنا هو ما لم يقله الرئيس الأميركي، ولكنه كان موجوداً بإلحاح وبشدة في ثنايا خطابه ومضمونه، ويعد جزءاً أساسياً من الحل. وقبل أن نبدأ أود من بعض المحللين "الاستراتيجيين" التوقف قليلا للمقارنة بين مضمون رسالة أوباما الحضارية وغير الراديكالية التي تهدف أساساً إلى طرح حلول للمحافظة على الحياة الإنسانية، وبين محتوى رسائل الظلام وأحاديث الكهوف لكل من زعيمي "القاعدة" ابن لادن والظواهري التي تركز على الدمار والقتل وإزهاق الأرواح. ومن المهم الالتفات إلى أن الرئيس الأميركي قد وضع في بداية خطابه عدداً من المحددات ربما تشكل مستقبل العلاقات الأميركية -العربية على المدى القريب، وهي: العولمة، والتاريخ، والتطرف، والكرامة والتسامح وتركيبته العرقية -الدينية ونشأته الاجتماعية، والثقافة الإسلامية، وعدم وجود صورة نمطية للولايات المتحدة الأميركية، والتصدي لمواجهة التوترات العالمية والإقليمية بطريقة عادلة، ونسيان الماضي، والاعتماد على الشباب لإعادة صياغة العالم. وستدافع أميركا عن نفسها ولكن في ظل احترام الدول الأخرى وسيادة القانون، وستعتمد الإدارة الأميركية برئاسة أوباما على الوسائل الدبلوماسية والإجماع الدولي في تعاملها مع التحديات والتهديدات، على أن يكون شن الحرب خياراً أخيراً، وذلك لصعوبة إنهاء الحروب رغم سهولة شنها. كما أن العلاقات الأميركية -الإسرائيلية راسخة و"غير قابلة للانكسار"، وأن أميركا ليست في حالة حرب ضد الإسلام، إلا أن هناك ضرورة لحل المشكلات القائمة من خلال الشراكة، أي بعبارة أخرى يجب أن يكون هناك دور أساسي ورئيسي للعالم الإسلامي في حل هذه المشكلات، لا أن يقف مكتوف الأيدي أو متفرجاً إذا كانت هناك رغبة حقيقية لتبرئة الإسلام من تهم التطرف والعنف والإرهاب. ثم نستعرض طرح الرئيس الأميركي لرؤاه تجاه ثماني قضايا رئيسية، وفي كل منها هناك ما لم يقله. وكانت القضية الأولى في الطرح هي عدم السماح لإيران بامتلاك السلاح النووي، إلا أنه لم يوضح كيفية تحقيق ذلك، وما إذا كانت الدبلوماسية الغربية قادرة على تحقيق ذلك من عدمه، أم أن الخيار العسكري الأميركي لا يزال مطروحاً وينتظر التوقيت، أم أنه من الممكن قبول إيران نووية ولكن وفق الشروط الأميركية، وما هو موقف الكيان العبري ومن ورائه الصهيونية العالمية ويهود أميركا ومنظمة "إيباك" تجاه الموقف الأميركي من إيران؟ أما في قضية التطرف والإرهاب، فنجد أن "القاعدة" ظلت العدو الرئيسي للمصالح الأميركية، لذلك ستتفرغ الولايات المتحدة الأميركية لشن الحرب عليها بشتى الوسائل، وكذلك الحال في أفغانستان، حيث ستعمل الإدارة الأميركية على استعادة كيان الدولة ومنع المتطرفين من الوصول إلى الحكم مهما بلغت التكلفة والخسائر، ولكن على المسلمين أن يتفهموا ما حدث ويحدث ضد "القاعدة" وفلول "طالبان" وحلفائهما في أفغانستان، ويدركوا أن الحرب على هذه القوى ليس لها علاقة بالإسلام والمسلمين، وإن كان هذا لا يمنع من مشاركة الدول الإسلامية في الحرب بأي وسيلة ممكنة حتى ولو كانت منع مواطنيها من التطوع في "القاعدة" أو "طالبان"، والقضاء على جيوب "القاعدة" في اليمن والصومال والسودان والعراق والمغرب العربي والجزيرة العربية، واتخاذ الإجراءات الكفيلة بحرمان المنظمتين من مصادر التمويل. والقضية الثالثة هي الصراع الإسرائيلي -الفلسطيني، وما لم يقله أوباما هو أن على العرب اعتبار أن مبادرتهم للسلام هي البداية، ومن ثم يلزم اتخاذ إجراءات أخرى لتحريك عملية السلام ليس أقلها تقديم تنازلات مهمة، بل العمل على لم شمل الفلسطينيين، والكف عن التهليل للمقاومة وأن تتوقف الدول الإسلامية، خاصة إيران، عن تهديد إسرائيل، لأنه أمر لن تقبله الولايات المتحدة، وأن هناك التزامات على العرب بشأن تخفيف حدة معاناة الفلسطينيين في "غزة والمخيمات"، وعلى السلطة الفلسطينية أن تطور مؤسساتها وأن يكون هناك مكان لـ"حماس" بعد أن تعيد النظر في مواقفها من استمرار المقاومة حتى تستطيع تحقيق أحلام الفلسطينيين، علماً بأن إدارة الرئيس أوباما لن تفرض السلام بل ستضع الإطار العام له وتعمل على تحقيقه ولكن في ظل جهود وقناعات الأطراف المختلفة. وكان الوضع في العراق هو القضية الرابعة في خطاب أوباما، وما لم يقله هو أن انسحاب القوات الأميركية من العراق مشروط بمدى قدرة قوات الأمن والشرطة والمؤسسات والأجهزة السياسية والاقتصادية العراقية على تحمل مسؤولية "استعادة العراق"، وليس معنى خروج القوات الأميركية من المدن العراقية تخلي الولايات المتحدة عن مسؤوليتها في فرض الاستقرار والأمن الداخلي إذا ثبت ضعف فاعلية القوات العراقية. القضية الخامسة هي الديمقراطية، فإذا كانت الإدارة الأميركية لن تضغط على الحكومات الإسلامية لتحقيق حلم شعوبها في الديمقراطية، فإنها سوف تدعم الشعوب لتنال حقوقها و"تحقق أحلامها"، وسوف تتدخل بصورة مباشرة لحماية حقوق الإنسان وحقوق الأقليات، وسوف تراقب الحكومات الإسلامية للتأكد من وضعها معايير محددة وواضحة لكيفية الوصول إلى سدة السلطة والمسؤولية تجاه مواطنيها. أما القضية السادسة فهي حرية ممارسة العبادة، لذا فإن على الدول الإسلامية الكف عن اضطهاد أصحاب الديانات الأخرى، والاعتراف بحقوقهم في المواطنة، بل ومساعدتهم على ممارسة معتقداتهم، حتى تكون المعاملة بالمثل في الدول الأجنبية التي يعيش فيها المسلمون، فالمطلوب هو "الحفاظ على ثروة التنوع في العالم الإسلامي مثل الموارنة في لبنان والأقباط في مصر"، وهنا نتذكر تقرير الكونجرس السنوي عن حرية ممارسة العقائد الدينية في العالم وتأثيره على الرأي العام والسياسة الخارجية الأميركيين. أما القضية السابعة في خطاب أوباما فكانت حول المرأة وحقوقها ودورها في المجتمع، وما لم يقله هو أن أميركا ترحب بالشراكة في مجال تعليم النساء إذا أرادت الحكومات الإسلامية ذلك، وأن هذا لا يعني عدم وقوف الإدارة الأميركية مع حصول النساء في الدول الإسلامية على حقوقهن ومساواتهن بالرجال. أما القضية الرئيسية الأخيرة في خطاب أوباما فكانت التطور الاقتصادي، وما لم يقله الرئيس الأميركي هو أن العالم الإسلامي قد تراجع دوره في الإسهام في التطور الإنساني، ولم تعد هناك ابتكارات وإبداعات إسلامية رغم أن "الابتكار هو عملة القرن الحادي والعشرين"، لذا فإن الاستثمار في هذه المجالات يضمن البقاء للمجتمعات الإسلامية، وأن الولايات المتحدة على استعداد للتعاون والشراكة في هذا المجال إذا كانت هناك رغبة حقيقية وصادقة وعملية من الدول الإسلامية. ربما تكون هناك أسباب عدة دفعت الرئيس أوباما للتركيز على الأطر والتوجهات العامة فقط دون التفاصيل، ومن أهم هذه الأسباب: ? أن اللبيب بالإشارة يفهم، كما يقول المثل الشائع، لذا فإن أوباما يرى أن المسلمين من الذكاء والفطنة بحيث يعرفون حجم التغيير المطلوب في مواقفهم وسلوكهم، حتى تستطيع الولايات المتحدة مساعدتهم. ? أن الولايات المتحدة ستضع الأطر العامة أو المبادئ والأسس اللازمة لوضع حد للتوترات القائمة، لكن على أصحاب الشأن اتخاذ الخطوات الواقعية والتفصيلية لتطبيق هذه الأطر؛ وحينها ستساعدهم أميركا. ? أنه أراد أن يجعل من أميركا الإمبراطورية التي تعمل لصالح الإنسانية كلها، وتسعى لخير العالم وتحقيق السلام والاستقرار، لذلك فإن مسؤوليتها أن تساعد فقط ولا تتدخل. ربما يكون هناك الكثير مما لم يقله أوباما ولكننا نكتفي بالقدر الذي يتيح للدول الإسلامية التعرف على دورها وواجباتها ومسؤولياتها إذا كانت جادة في حل قضاياها، وعندها ستكون إدارة أوباما مستعدة لدعمها... إنه شعار التغيير!