من المعروف أن تحليل مضمون أحاديث الرؤساء يشير دائماً إلى طريقة عملهم ورؤاهم وتوجهاتهم، خاصة إذا كان المحاور ذكياً ولماحاً وقادراً على استخلاص ما يفكر فيه الضيف الرئيس، وتزداد هذه الخصوصية إذا كان الرئيس هو أوباما، الذي أكدت أفعاله أقواله، لذلك فإن الحديث الذي أدلى به الرئيس الأميركي إلى صحيفة "نيويورك تايمز" ونشرته يوم 3 مايو 2009، يتيح الفرصة لمعرفة توجهاته التي صرح بها، أو لم يصرح بها، والتعرف عليها يطرح كثيراً من الدروس التي يجب أن تتعلمها معظم الحكومات العربية إذا أرادت أن تعمل لخدمة شعوبها! لقد كان واضحاً أن أوباما يضع أميركا وشعبها أولا وقبل كل شيء عندما شرع في وضع الحلول لخمس قضايا هي: الأزمة المالية، وإنعاش الاقتصاد، والرعاية الصحية، وتطوير التعليم، وتوفير وظائف جديدة. وفي كل قضية من هذه القضايا برز الهدف المحدد المراد تحقيقه، والتحديات المحتملة المتربصة به، والرؤية التي تقود إليه، أو لنقل الإطار العام لاستراتيجية العمل، بل ونقاط الضعف في هذه الاستراتيجية. فقد رأى أن الاقتصاد "الصحي" يجب أن يهدف إلى إنعاش الاقتصاد، والتغلب على الركود، ويرفع دخول المواطنين ويوفر وظائف جديدة، لذلك فإنه يجب أن يقوم على مزيج واسع النطاق من الوظائف اليدوية والإدارية والتخطيطية، والعمل على ترشيد استهلاك الطاقة، وأن يكون هناك خبراء اقتصاد واقعيون وعمليون يستطيعون تقديم المشورة والتوصية السليمة للسياسات الاقتصادية. وفي هذا الصدد نجد أن الرئيس الأميركي لم ينكر حقيقتين: أولاهما أنه استعان بخبراء اقتصاديين متميزين، ربما لم يبلغوا قدرات بول كروجمان أو آلان جرينسبان، إلا أنهم يستطيعون تقديم المشورة المطلوبة. والحقيقة الثانية وجود تعارض في وجهات النظر بين هؤلاء الخبراء، بل إن بعضهم لا يقبل بالآخر، وهذا الأمر مطلوب ويجب تشجيعه لإثارة النقاش المجدي والجدِّي حول القضايا الحيوية والاستراتيجية المطروحة على مستوى الحكم في أي دولة تهتم بمصالح شعبها، خاصة إذا كان اختلاف وجهات النظر والتضارب في الآراء والمقترحات بين الخبراء لا يخفي وراءه مصالح شخصية أو مكاسب خاصة. وأكد أوباما ضرورة أن يكون هناك قطاع مصرفي سليم ومعافى وقادر على توفير الإئتمان للأفراد، ويتسم بالمرونة الكافية حتى يستطيع المستهلكون الاستمرار في شراء السلع المعمرة التي توفر لهم حياة كريمة مثل السيارات أو المنازل. ويجب أن يكون الأميركيون قادرين على المشاركة بحريّة في أسواق الأسهم والأوراق المالية دون خشية الخسائر الفادحة. وهو يرى أن هذا الأمر يفرض تحديث النظم الرقابية بصورة مشابهة لما قامت به الولايات المتحدة في الثلاثينيات من القرن العشرين. كما لم ينكر الرئيس الأميركي أن المستقبل يحمل في طياته مصادر منافسة طويلة الأمد للاقتصاد العالمي عامة، والأميركي خاصة، وهي الصين والهند والاتحاد الأوروبي والبرازيل وكوريا الجنوبية. والسبب الرئيسي أنها دول استطاعت أن تنتج أفضل قوة عاملة من حيث مستوى التعليم الذي يرتكز على العلوم والرياضيات والتطبيقات التكنولوجية والمعرفية، أي أنها دول تعلمت ثقافة العمل بديلا عن ثقافة الاستهلاك، وتسعى إلى صنع مستقبلها بالاستثمار في رأسمالها البشري وفق الاحتياجات والمواصفات العالمية، فهي تسعى إلى المنافسة وإثبات الذات، ومن ثم تبني الموظف والعامل "العالمي" الذي يمكن أن يعمل داخل دولته أو تصديره إلى الخارج. ومن المؤكد أن أوباما قد تحدث عن هذه الدول ليحث الأميركيين على العمل وبذل الجهد حتى لا تسبقهم هذه الدول ويأتي اليوم الذي تحتل فيه عمالتها الوظائف في الولايات المتحدة. لذلك جاء حديث الرئيس الأميركي حول الحاجة إلى إصلاح التعليم وتطويره ليحقق متطلبات التقدم، واستعادة التوازن بين صناعة الأشياء وتقديم الخدمات، فالتصنيع وحده لا يضمن الترويج والانتشار لمنتجاته، فهناك علاقة وثيقة بين من يعمل بيده ومن يجب أن يخطط للاستفادة العلمية والواقعية من هذا العمل، وذلك من خلال تفعيل المناهج الدراسية في مجال الهندسة والعلوم والرياضيات، وتشجيع الأميركيين على استكمال دراساتهم الجامعية، وأن يتم تدريب كل من أتمّ التعليم الثانوي لكي يمتلك خبرات فنية ومهارات متميزة إذا كان يطمح في الحصول على وظيفة، لكن قبل ذلك يجب التأكد أولا من أن هذا الشخص قد تعلم في المدارس ما يحتاجه من العلم ليتعامل مع العالم الخارجي في سوق العمل، بعد أن ساوى معدل البطالة بين خريجي المدارس الثانوية معدل البطالة بين خريجي الجامعات. وعندما تحدث أوباما عن الرعاية الصحية، أكد أهمية العمل على تقويم الخيارات العلاجية المتاحة، والسعي إلى ضبط نفقات العلاج، خاصة أن كبار السن يستهلكون أكثر من 80 في المئة من إجمالي مدخرات تكلفة العلاج في الولايات المتحدة. كما أكد ضرورة الاعتماد على الدراسات الواقعية لتوفير المعلومات للأطباء عن الأدوية منخفضة الأسعار، ومقارنة تكلفة العلاج ما بين الولايات المتحدة للتعرف على أسباب النجاح، فإذا كان هناك علاج ناجح ومنخفض التكاليف في إحدى الولايات فإنه يمكن تعميمه في باقي الولايات الأخرى. لقد شعر أوباما بنبض الشارع الأميركي بعد أن خرجت تكلفة العلاج عن سيطرة الأسرة الأميركية، ولم تعد مدخرات التأمين الاجتماعي كافية لضمان حياة صحية مستقرة، لذلك فإنه يرى ضرورة إعادة النظر في السياسة العلاجية وتكلفة العلاج نفسه، مع تحقيق التوازن بين التأمين الطبي لكبار السن وباقي الفئات الأخرى في المجتمع. وقد أفاض الرئيس الأميركي في مسألة السعي إلى توفير الوظائف، وأن تهدف استراتيجيات الإدارة الأميركية وجميع سياساتها إلى دعم هذا الاتجاه، والعمل على إزالة الفجوة في الرواتب بين الرجال والنساء، خاصة في المجالات التي تسيطر عليها النساء مثل التمريض والتعليم، لتشجيع الرجال على خوض غمار هذه المجالات، مع عدم التقليل من مسؤولية النساء تجاه إعالة أسرهن. وإذا كانت هذه رؤية الرئيس الأميركي بعد مرور أكثر من 100 يوم على تحمُّله مسؤولية الحكم، فإنها تعني أنه قد شخَّص بدقة ما يعانيه المواطن الأميركي، وأنه سيعمل بكل جدّ واجتهاد لمعالجة مواطن الخلل دون الارتكان إلى شمَّاعة الماضي وكيل الاتهامات إلى الإدارات الأميركية السابقة، فعليه أن يتحمّل قدره الذي تقدم إليه بإرادته واختياره، وانتخبه الشعب الأميركي بكامل حريته وقناعته لتحمُّل هذه المسؤولية. وقبل مقابلته الصحفية بأيام عدة وقف الرئيس الأميركي في صف عدد كبير من الأميركيين بتركيزه على شركات منح البطاقات الائتمانية، وإعلان أنه يدعم إصلاحاً يحدّ من التجاوزات في هذا المجال ويؤمِّن حماية أفضل للمستهلكين، فقد مضى زمن فرض فوائد عالية ومجحفة في أي وقت ولأي سبب. لكن أوباما يرى أن هناك حاجة إلى مزيد من الوقت حتى يمكن استعادة الثقة والأمل في مستقبل أفضل، فهو قد أتى للتغيير، ولكنه لا يملك عصا سحرية ليحوِّل الأسود إلى أبيض في غمضة عين، ولكن يكفيه أنه صادق مع نفسه ومع شعبه، وأنه واقعي لا يعد بالأحلام العبثية، كما أنه لا يقبل الحلول الوسط والمسكِّنات والشعارات، بل سيلتزم بما وعد به سواء للذين قالوا له نعم أو للذين رفضوه، ولكنه بحاجة إلى الوقت. من المؤكد أن حديث رئيس "حكومة" الدولة الأعظم، يحمل الكثير من المعاني والدروس لمعظم الحكومات العربية، فقد استطاع أن يحدد بدقة مشكلات الشعب الأميركي ومعاناته، ولم يتوقف عند تداعيات الأزمة المالية والاقتصادية العالمية فقط، بل وضع يده على مفاتيح التغلب على هذه المشكلات، وطرح رؤاه للحل، ونجح في اختيار من يستطيعون مساعدته على تنفيذه، ولم ينكر أن الطريق الوحيد للحصول على الوظائف ينحصر في التعليم والتدريب. وبرغم أن معظم الدول العربية تتغنى بالتعليم الأميركي، فإن أوباما نفسه طالب بضرورة إصلاح التعليم بكل مستوياته بحيث يواكب متطلبات التقدُّم في عصر لا يعترف إلا بالعلم.