كم نتوقع من القتلى اللبنانيين الذين يقفون في صفوف انتظار الموت اليوم، قبل أن يبرز قائد عربي ليقول للقتلة كفى؟ وبأي وجه يستطيع القادة العرب الجلوس في القمم العربية، وجهاً لوجه، مع قتلة ربما يعرفونهم حق المعرفة، دون أن تنبس شفاههم بكلمة واحدة عن أسمائهم؟ فأين كرامة العرب... أين ذهبت نخوتهم يا ترى؟! فها قد مضى يوم الثلاثاء، بروح مسؤول لبناني آخر، هو بيير أمين الجميل، وزير الصناعة في حكومة فؤاد السنيورة، إثر إطلاق النيران على سيارته في أحد شوارع بيروت، لينضم اسمه إلى تلك القائمة الطويلة من أسماء اللبنانيين المطالِبين بأولوية استقلال لبنان، فيما بعد وما قبل اغتيال رئيس الوزراء الأسبق رفيق الحريري، والذي جرى تفجير موكب سياراته بمن فيها في شهر فبراير من عام 2005. ليس ثمة، بالنسبة لي شخصياً، سر أو غموض يذكر حول من المسؤول عن الجريمة الأخيرة هذه، وكافة الجرائم الشبيهة السابقة لها، إلا إن أردنا دفن رؤوسنا في الرمال والتظاهر بعدم معرفتنا لمن يقف وراء هذه الجرائم مجتمعة. فقد أشارت التحقيقات الأولية التي أجرتها الأمم المتحدة، ونشرت نتائجها في العام الماضي، بكل وضوح إلى وجود سلسلة من الأدلة على مسؤولية طرف إقليمي ما عنها. وفي الأمس أجازت الأمم المتحدة إنشاء محكمة دولية في لبنان لكي تكون مخولة محاكمة مرتكبي تلك الجريمة. لكن رغم مرور القرار المذكور عبر مجلس الأمن الدولي، فإن رغبة القتل لم تتوقف بعد. والدليل على ذلك، إطلاق القتلة لمجموعة من الطلقات على مكتب وزير لبناني آخر، في وقت لا تزال برودة الموت تسري في جسد زميله القتيل بيير الجميل. والحال هكذا، فإن من الطبيعي أن يتساءل المرء: هل ماتت فينا الروح والضمير، نحن العرب، إلى كل هذا الحد الذي انعقدت فيه ألسنتنا أمام هذا الجرم الفاحش الذي ما انفك يتكرر أمام ناظرينا؟ وكما قال سعد الحريري، فإن أيادي جهات تغطي مسرح الجريمة بكامله. يذكر أن سعد الحريري هو زعيم التكتل البرلماني المؤلف من المسلمين السُّنة، والمسيحيين، والدروز وغيرهم من الجماعات اللبنانية الوطنية الأخرى، والذي أفلح في إطلاق "انتفاضة الاستقلال" ربيع العام الماضي. وقد وردت عبارته هذه، ضمن تعليق له حول مصرع بيير الجميل. وبالطبع فإن الحريري الشاب، مدرك أيما إدراك لما يتحدث عنه، وما الذي يقصد بتلك الأيادي التي تغطي مسرح الجريمة بكامله، على حد قوله. كيف لا وأبوه الحريري كان في مقدمة وأبرز ضحايا الجريمة نفسها، رغم أنه لم يعد ضحيتها الوحيدة كما نرى؟ فإلى جانب الحريري، طالت أيادي القتلة عدداً كبيراً من المدرجين في قوائم الموت، من بينهم الصحفي اللامع سمير قصير الذي نسفت سيارته بالكامل، ليلحق به بعد ثلاثة أسابيع فحسب، وبالطريقة نفسها، السياسي اليساري الشجاع خليل حاوي، وصولاً إلى وزير الدفاع إلياس المر الذي نجا بأعجوبة من انفجار سيارة مفخخة. وقد شهد هذا الأخير في إفادة له على أنه تعرض للتهديد من قبل مسؤول عسكري عربي له علاقة سابقة بلبنان. وكما نذكر فقد فقدت المذيعة التلفزيونية مي شدياق ذراعها ورجلها اليسرى في حادثة انفجار سيارة مفخخة. تلا ذلك بعد ثلاثة أشهر فحسب، اغتيال النائب البرلماني والصحفي جبران تويني، رئيس تحرير صحيفة "النهار"، في حادثة سيارة مفخخة أيضاً. يشار هنا إلى أن تويني كان يُعد من بين أعلى الأصوات اللبنانية المطالبة بـ"الاستقلال" وبتحرير الإرادة الوطنية اللبنانية، على امتداد السنوات الست الماضية، وأنه كان قد جرى انتخابه لعضوية البرلمان. وقد تزامن اغتيال تويني مع صدور تقرير اللجنة الدولية المؤقتة بشأن اغتيال رفيق الحريري، تماماً مثلما تزامن اغتيال بيير أمين الجميل يوم الثلاثاء الماضي، مع إنشاء المحكمة الدولية المختصة بمحاكمة المتهمين باغتيال الحريري. أشير هنا أيضاً إلى أن جبران تويني هو نجل الناشر الصحفي العربي الأبرز غسان تويني الذي نال جائزة خاصة تقديراً لجهوده في مجال الصحافة والنشر، من دولة الإمارات العربية المتحدة، في مؤتمر إعلامي عقد عام 2004. وبعد كل هذا السرد لهذه السلسلة الطويلة من الضحايا والقتلى، فإنني أعيد طرح السؤال مجدداً: لمَ هذا الصمت العربي "المهذب" على قضية لا يكون فيها التهذيب سوى مرادف للتواطؤ والتستر على القتلة والمجرمين؟ وكما نعلم فإن بعض النظم في المنطقة، لا تدخر وسعاً الآن لفعل كل ما في وسعها لوقف إجراءات محاكمة قتلة الحريري، مع العلم بأنها تفعل ذلك من خلال العمل التضامني المشترك، مع بعض الأطراف اللبنانية الداخلية. وكما نعلم فإن الممول الرئيسي لهذه الأطراف، هو عواصم إقليمية أيضاً. فهل ما زلنا بحاجة لمزيد من الأدلة على الدوافع وراء هذه الجرائم التي تطال الشخصيات اللبنانية؟ حسناً... هاكم المزيد منها. فقد هدد زعيم حزبي، بتنظيم المظاهرات الشعبية الهادرة، الرامية لإسقاط حكومة فؤاد السنيورة، المعروفة بعدائها للمرحلة السابقة وإرثها السياسي كله. وما هو إلا أسبوع واحد فحسب، وقد مر على استقالة ستة من الوزراء اللبنانيين، من عضويتهم بمجلس الوزراء، على أمل أن تؤدي استقالتهم تلك للإطاحة بحكومة فؤاد السنيورة. ويكتمل ذلك المسعى باغتيال بيير الجميّل مؤخراً، بهدف إزالة عقبة أخرى أمام هيمنة إحدى العواصم العربية القريبة على لبنان. وما بين حملة استقالات وزارية مباغتة، وجرائم القتل، إنما ترمي أطراف داخلية إلى تحقيق هدف واحد، هو تصفية حكومة فؤاد السنيورة. وبما أن القانون اللبناني ينص على وجوب استقالة الحكومة القائمة، في حال خروج 30 في المئة من وزرائها عنها، فإن من الطبيعي أن نثير السؤال: على من يقع الدور التالي من الوزراء الحاليين؟ بل الأهم من هذا السؤال وقبله: أي لغز يشكِل حله هنا، حتى على صبي صغير لم يتجاوز عمره العاشرة بعد؟ وكما هو متوقع، فقد أعدت بعض الجهات العربية التي أشارت إليها أصابع الاتهام، بيانات شجبها وإدانتها الرسمية لمثل هذه الجرائم سلفاً، ووفرتها للاستخدام الفوري، ما أن يقع أي من الجرائم إياها، مع العلم بأن هذه الجهات نفسها، هي التي تبصم على خطط تلك الجرائم وتجيزها مُسبقاً! وأمام هذه المسرحية الهزلية الدامية... إلى متى يمتد صمت العرب و"تهذيبهم"؟!