لا يتعين علينا ونحن في غمرة الانجذاب إلى الأسئلة الغامضة المتعلقة بهوية مسؤول البيت الأبيض الذي أفشى سر عميلة وكالة الاستخبارات المركزية ''فاليري بالم''، وأذاع قصتها على نحو سافر، أن ننساق وراء هذه الموضوعات ونغفل القضية الأساسية التي كانت بمثابة نقطة الانطلاقة بالنسبة للمناورة المكشوفة التي أقدمت عليها إدارة الرئيس بوش بعدما ضللت الشعب الأميركي وقادته إلى الحرب في العراق· وبالطبع لجأ دهاقنة البيت الأبيض من ''المحافظين الجدد'' إلى حياكة القصص والألاعيب من أجل تصوير العراق وكأنه الخطر الداهم الذي لا يمكن درء تهديده دون القيام باجتياح أراضيه وإخضاعه لاحتلال شامل· وقد تم التركيز في نسج المبررات على مسألة أسلحة الدمار الشامل التي قيل إن العراق يسعى جاهدا لامتلاكها وتوجيهها ضد أميركا· ولإحكام قبضتهم على العراق شرع ''المحافظون الجدد'' في نسج خططهم قبل وقت كاف من الموعد الفعلي للحرب·
وقد بدأت تفاصيل القصة تتبدى للمراقبين منذرة بقرب التدخل العسكري ضد العراق منذ شتاء ،2002 حينها استلم نائب الرئيس ديك تشيني تقريرا أعدته الاستخبارات الإيطالية حول جهود مزعومة يقوم بها العراق لشراء اليورانيوم من النيجر· غير أن التقرير الذي راجعته وكالة الاستخبارات الأميركية ودققت في معلوماته ثبت عدم صحته حيث كان عبارة عن وثيقة مسروقة من سفارة النيجر في روما حصل عليها أحد رجال الأعمال الإيطاليين بطريقة مريبة· وفي الوقت الذي أفصحت وكالة الاستخبارات المركزية عن تحفظها حيال ما جاء في التقرير، وشككت في صحته، فضلت إدارة الرئيس بوش الاعتداد به واعتباره وثيقة لا يرقى إليها الشك· ومنذ ذلك الوقت ورائحة الحرب على العراق تنبعث من البيت الأبيض لتزكم أنوف المتتبعين·
ولكم أن تتصوروا الغضب العارم الذي انتاب صقور البيت الأبيض عندما أُرسل السفير جوزيف نيلسون إلى النيجر للتحقيق في مدى صحة تلك المعلومات· وبدلا من أن تأتي تصريحات نيلسون مساندة لأطروحة الرئيس بوش جاءت عكس ذلك تماما حيث لم يتردد في كشف الحقيقة من خلال مقال نشره في جريدة ''نيويورك تايمز'' ينفي فيه وجود أية صفقة سرية بين النظام العراقي والنيجر لشراء اليورانيوم· ولا شك أن تلك التصريحات الكاشفة كانت الحافز الأساسي الذي دفع ''لويس ليبي''، مدير مكتب نائب الرئيس للإقدام على حماقة إفشاء هوية ''فاليري بالم'' واضعا نفسه تحت طائلة المساءلة القضائية· ولم يقف المسؤولون في البيت الأبيض عند هذا الحد في تلفيق التهم واجتراح المسوغات من أجل تنفيذ مخططهم وغزو العراق، بل ركنوا إلى المنشق العراقي السابق أحمد جلبي وصدقوا كل ادعاءاته بشأن أسلحة الدمار الشامل التي يمتلكها نظام صدام حسين· ولتدعيم حججه كان أحمد جلبي يستقي معلوماته من بعض العلماء العراقيين المتعاونين مع مشروع البيت الأبيض· والأكثر من ذلك أن جلبي وجد منفذا إعلاميا سهلا لترويج أكاذيبه مستغلا علاقة الصداقة مع جوديث ميلر الصحفية في ''نيويورك تايمز'' التي كتبت سلسلة من المقالات عن امتلاك العراق لأسلحة الدمار الشامل· وهي المعلومات التي اضطرت الصحيفة لاحقا إلى التبرؤ منها والاعتذار على نشرها·
غير أن إدارة الرئيس بوش استمرت في إقحام مزاعم حيازة العراق لأسلحة الدمار الشامل في خطب الرئيس بوش وديك تشيني، حيث انتهى الأمر بتلك المزاعم على لسان وزير الخارجية السابق كولن باول وهو يتلفظ بها أمام الأمم المتحدة، ما دفعه مؤخرا إلى الإعراب عن ندمه الشديد، لكن بعدما سبق السيف العذل· لذا دعونا لا نقف طويلا عند قضية التسريبات، ولنركز في المقابل على الجهود الكبيرة التي بذلت من أجل تبرير حرب غير مبررة·
ينشر بترتيب خاص مع خدمة كريستيان ساينس مونيتور