تشهد سياسات التجارة العالمية تغيرات كبيرة, ومعها تتغير أيضاً المواقف التقليدية لكل من الديمقراطيين والجمهوريين, ذات الصلة بسياستهما الاقتصادية. فمن جانبهم تخلى الديمقراطيون عن دعاويهم الليبرالية في مجال التجارة, علماً بأنها شكلت تقليدهم الراسخ منذ عهد الرئيس الأسبق فرانكلين روزفلت ووزير الخارجية الأسبق كورديل هال. ونتيجة لهذا الانقلاب في المواقف, تحول الحزب الديمقراطي اليوم, إلى حزب يدافع عن سياسات حماية الاقتصاد القومي! وعلى نقيض ذلك تماماً تحول الحزب الجمهوري, إلى قلعة للدفاع عن قيم التجارة الحرة, بعد تخليه عن تقاليد حماية الاقتصاد القومي, التي ظل يتمسك بها منذ عهد ألكساندر هاميلتون وحقبة الكساد الاقتصادي التي عرفت بسياسات رفع سعر التعرفة التجارية! ومن وجهة النظر الاقتصادية البحتة, فإن الجمهوريين على صواب, ما في ذلك شك.
هذا ويتوقع أن تلغي "اتفاقية التجارة الحرة مع أميركا الوسطى" التعرفة التجارية تماماً, بين خمس من دول أميركا الوسطى, ومعها جمهورية الدومنيكان من جانب, والولايات المتحدة الأميركية من الجانب الآخر. وكان مجلس الشيوخ الأميركي قد صادق على هذه الاتفاقية بنسبة أصوات 54 إلى 45 لصالح الاتفاقية. وانقسم الجمهوريون فيما بينهم بين 43 إلى 13 صوتاً مع الاتفاقية, بينما كان الخلاف بين الديمقراطيين 33 إلى 19 صوتاً لصالحها. إلى ذلك يتوقع من مجلس النواب أن يصوت على قانون الاتفاقية نفسها خلال الشهر الجاري.
وكان أحد العوامل الرئيسية وراء تغيير الديمقراطيين موقفهم إزاء حرية التجارة, الضغط الذي مارسته الاتحادات والنقابات المهنية, التي هالها تسرب الوظائف من بين يديها, نتيجة لاتجاه الشركات والمصانع أكثر فأكثر نحو العمالة الرخيصة. فالعامل الذي يشهد بعينيه انتقال وظيفته من أحد مصانع النسيج في ولاية كارولينا الجنوبية, إلى المكسيك أو إحدى دول أميركا الوسطى, لن تسره مطلقاً الفكرة القائلة إن هذا الانتقال, يعني تمتع المستهلك الأميركي بملبوسات أرخص.
كما لا تسره كذلك الحجة القائلة إن في انتقال كهذا, زيادة لدخول العاملين في المكسيك وأميركا الوسطى, بقدر ما فيه رفع لقدرة الولايات المتحدة, على استيراد ما تحتاجه من منتنجات نسيجية من تلك الدول. يذكر أن تيب أونيل المتحدث الرسمي السابق باسم مجلس النواب, كان مولعاً بترديد عبارة "محلية هي السياسة كلها", وهي اليوم ليست أكثر محلية عما كانت عليه من قبل. والشاهد أن عدداً أكبر من المواطنين الأميركيين, سيستفيد من توسيع الرقعة التجارية, أكثر مما يلحقه منها من ضرر كما يعتقد البعض.
وهناك العديد من نماذج وأمثلة انتقال الصناعات والاستثمارات من بلد لآخر, أو من منطقة لأخرى نتيجة لتغير واختلاف المصالح الاقتصادية. والمعلوم أن الصناعات النسيجية لم تكن متأصلة يوماً في بلدان أميركا الجنوبية. والذي يحدث الآن ليس سوى محطة واحدة فحسب, ضمن سلسلة طويلة جديدة, من هجرة الاستثمارات والصناعات. يذكر أن هذه الصناعة كانت قد بدأت أصلاً في انجلترا القرن التاسع عشر, ثم انتقلت منها إلى نيوإنجلاند التي كانت قريبة من موارد المواد الخام, فانخفضت بذلك كثيراً تكلفة النقل والترحيل, إلى جانب وفرة العمالة المهاجرة الرخيصة التي شهدتها أواخر القرن التاسع عشر. بيد أن الجنوب الأميركي, استطاع أن يغري هذه الصناعة ويجذبها إلى أراضيه, نتيجة لتوفيره المكاسب والشروط التنافسية ذاتها المتوفرة في نيوإنجلاند. واليوم فإن هذه الصناعة تشق طريقها حثيثاً إلى دول أميركا اللاتينية وآسيا, لا لسبب آخر سوى توفر العمالة الرخيصة هناك.
وفي هذا الانتقال ملمح من ملامح التغيير الاقتصادي الواسع النطاق, الذي أجرته العولمة. وبفعل هذا التغيير, فقد حدث اندماج واختلاط بين اقتصادات الدول, لم يسبق له مثيل, ولم يعد من السهل الارتداد عنه. وليس أدل على مظاهر العولمة هذه, من العرض الذي قدمته شركة النفط الصينية بسداد مبلغ 18.5 مليار دولار نقداً وعداً, لشراء شركة "يونوكول" النفطية الأميركية. وبين ما اشترته الصين, أعمال الكمبيوتر الشخصي التابعة لشركة آي.بي.إم. وكذلك شركة "ميتاج", وهي من كبرى الشركات الأميركية المصنعة للأدوات والأجهزة المنزلية. هذا وقد أبدى بعض أعضاء الكونجرس قلقهم إزاء الأمن القومي جراء التنافس الاقتصادي الذي تخوضه الصين مع شركات النفط الأميركية.
وفي الواقع فقد كان الأحرى بهؤلاء الأعضاء, أن يعبروا عن سعادتهم وغبطتهم بهذا التنافس. فما من سبيل أمام الولايات المتحدة الأميركية لسد عجزها في ميزان التجارة الخارجية, سوى التوسع في مجال هذه التجارة, مع العلم أن العجز الذي تعانيه أميركا في هذا المجال, يكاد يصل الآن إلى 800 مليار دولار سنوياً! لذلك فإن علينا أن نرحب بتدفق الأموال الصينية إلى خزانتنا العامة. وفي الوقت ذاته, يتعين على أميركا, وبالتضامن والعمل مع دول أخرى, أن تمارس الضغط على الصين, بغية إقناعها بتعويم عملتها الوطنية "اليوان" في أسواق المال العالمية. فالمعلو