الأصل في دور الجيوش في الصراعات الدولية أنها تمثل الأداة العسكرية لسياسة الدولة الخارجية التي تحاول بها أن تحقق أهدافها في هذه الصراعات، سواء كانت سياسة الدولة هجومية فتعمل الجيوش على تحقيق أهداف دولتها في السيطرة على أرض أو تدمير قوة خصم وما إلى ذلك، أو كانت دفاعية بصد عدوان خارجي أو ردعه وهكذا.
ويفترض أن الجيوش تعمل في إطار النظام السياسي للدولة، بمعنى أنها لا تتحرك إلا في إطار السياسة التي وضعتها المؤسسات السياسية للدولة سواء كانت ديموقراطية أم غير ذلك، وبالتأكيد فإن المؤسسة العسكرية تُستشار في القرار وتشارك في صنعه، لكن القيادة السياسية تكون هي المنوط بها اتخاذه، اللهم إلا إذا كانت المؤسسة العسكرية قد استولت على السلطة فيكون لها القول الفصل، غير أن تطورات العمليات العسكرية بعد اتخاذ القرارات السياسية ببدئها إما أن تفضي إلى نتيجة حاسمة في وقت معقول إن هزيمة أو نصراً بحيث يُحْسَم الأمر على نحو طبيعي، أو يطول أمد هذه العمليات بحيث تنطوي على استنزاف لطرفي القتال ولو بدرجات متفاوتة، وتُظهر الخبرة الماضية أنه كلما طال الأمد وزاد الاستنزاف تتبلور متغيرات جديدة قد تُحدث تحولاً في دور الجيوش، وأضعف الإيمان أن يكون لها رأي في الإطار السياسي الذي يحكم العمليات العسكرية، وأقصى الاحتمالات أن تتمرد على هذه السياسة، كما فعل قادة الجيش الفرنسي المحارب في الجزائر 1958عندما فرضوا عودة ديجول لسدة الحكم في فرنسا بعد أن زادت انتقادات قادة الجيش الفرنسي للإدارة السياسية للحرب، وأفضى ذلك لانهيار الجمهورية الفرنسية الرابعة وتأسيس ديجول للجمهورية الخامسة، وعلى الرغم من أن قادة الانقلاب قد تمردوا لخشيتهم من ضعف السياسات الحكومية الذي يمكن أن يفضي للتخلي عن الجزائر وتكرار الفشل في الهند الصينية فإن ديجول كان هو القائد القوي ذو النظرة الاستراتيجية الذي توصل للاتفاق مع جبهة التحرير الجزائرية على استقلال الجزائر في 1962، وتكررت التجربة مع خلاف في التفاصيل في البرتغال 1974عندما قام الجيش مباشرة بانقلاب أطاح بالحكم الفاشي في البرتغال، ومنح كافة مستعمراتها الأفريقية الاستقلال قبل انتهاء العام التالي للانقلاب، وذلك بعد أن تأكد للجيش عجز النظام عن فهم استحالة الانتصار على حركات التحرر الأفريقية في المستعمرات البرتغالية.
وثمة مؤشرات على حدوث أعراض مشابهة في المواجهة الحالية في غزة، ليس بطبيعة الحال بما يصل إلى ما حدث في فرنسا في خمسينات القرن الماضي، أو البرتغال في سبعيناته، وذلك بسبب طبيعة المجتمع الإسرائيلي الذي يؤيد بأغلبيته الساحقة أهداف الحرب، ولكن بمعنى حدوث تباين في وجهات النظر الخاصة بإدارة الحرب والمفاوضات بين المؤسستين العسكرية والأمنية من جهة ورئيس الوزراء الإسرائيلي من جهة أخرى، ولعل أول المؤشرات في هذا الصدد قد تبدى في انتقاد وزير الدفاع الإسرائيلي صراحة لغياب الأفق السياسي للعمليات العسكرية، وأن هذا الغياب يهدد بتضييع ثمار العمليات العسكرية، ثم ظهر بشكل أوضح في انحياز المؤسستين العسكرية والأمنية في إسرائيل لفكرة عقد صفقة لوقف إطلاق النار وتبادل الرهائن والأسرى، واتهام نتنياهو صراحة بأنه المسؤول عن عرقلتها، وسوف يتوقف تطور هذا الخلاف على عوامل عديدة تتعلق بطرفي الصراع المباشرين والأطراف الخارجية المؤيدة لهما.

*أستاذ العلوم السياسية- جامعة القاهرة