قبل نزول الرئيس الأميركي جو بايدن على رغبة العديد من أنصاره وأصدقائه، وانسحابه من السباق الرئاسي، بعد أدائه الكارثي في المناظرة الرئاسية، كان من شبه المؤكد - إن لم يكن من المحسوم - أن دونالد ترامب سيفوز بهذا السباق. ومع أن الفارق بينه وبين بايدن لم يكن كبيراً، إلا أن الخشية كانت مما يمكن أن يحدث، كزيادة تدهور الوضع الصحي للرئيس الحالي وتراجع كفاءته الذهنية في وقت قاتل بالنسبة للانتخابات.

والحقيقة أن المرء ليعجب كيف لم تفكر نخبة الحزب الديمقراطي الأميركي، في توقيت مناسب قبل الاستقرار على بايدن كمرشح للحزب، في احتمال أن يكون التقدم في السن عائقاً أمامه في الطريق لولاية ثانية. وكان من الممكن أن تأتي المبادرة مبكرة من هذه النخبة، أو حتى من بايدن نفسه، لكن يبدو أن تقليد ترشيح الرئيس الجالس في سدة السلطة لولاية ثانية، كان له الغلبة على أي اعتبار آخر. بل إن بايدن نفسه احتاج لضغوط حقيقية من أقرب أصدقائه وأنصاره كي يُسَلِّم بأنه قد آن الأوان للتقاعد بشرف بدلاً من هزيمة مذلة تكون أسوأ ختام للحياة السياسية لرجل قدّم لبلاده الكثير.

وقد أحدث انسحاب بايدن وبروز نائبته كامالا هاريس كمرشح بديل، تغييراً فورياً في المشهد الانتخابي، ليس بمعنى قلب الموازين لصالح «الديمقراطيين» بطبيعة الحال، ولكن لأنه أعاد التوازن للسباق الانتخابي على أساس أن الحديث عن فوز ترامب بالرئاسة، بل اكتساح الانتخابات، لم يعد مسلَّماً به. وتؤكد استطلاعات الرأي الأخيرة هذا التحليل، وعلى سبيل المثال فقد أظهر استطلاع أُجري في 22 يوليو الجاري أن ترامب يتفوق بنقطة واحدة على هاريس (48٪‏ مقابل 47٪‏)، وكان استطلاع آخر قد أظهر تعادلهما بنسبة 44٪‏ لكل منهما. وفي 23 يوليو، أي في اليوم التالي مباشرة، أظهر استطلاع للرأي تفوق هاريس بنقطتين على ترامب (44٪‏ لهاريس مقابل 42٪‏ لترامب).

ويعلم المتخصصون في استطلاعات الرأي والمتابعون لها أن نتائجها تنطوي عادة على هامش للخطأ، كما أن النتائج الفعلية للانتخابات تأتي في بعض الأحيان مناقضةً جذرياً لهذه الاستطلاعات، كما حدث في المثال الشهير لهزيمة «حزب العمال» البريطاني في الانتخابات التشريعية لعام 1970عندما أجمعت الاستطلاعات على منحه فوزاً كبيراً، بينما فاز «المحافظون» بأغلبية مريحة، وفُسر هذا آنذاك بما يُعْرف بالنبوأة الهادمة لذاتها (self defeating prophecy).

بمعنى أن إعلان نتائج الاستطلاعات يؤثر على سلوك الناخبين، وفي تلك الحالة مثلاً شعر أنصار «العمال» بثقة مفرطة فتقاعسوا عن الذهاب لصناديق الاقتراع، بينما خشي «المحافظون» من هزيمة مُذِلَّة فارتفعت نسبة مشاركتهم. ليس لاستطلاعات الرأي دائماً القولُ الفصلُ في التنبؤ بنتيجة الانتخابات. لكن ما يمكن استخلاصه من الاستطلاعات الأخيرة حول شعبية كلٍ من ترامب وهاريس هو أن أمامها فرصة للفوز دون شك، وأن نتيجة الانتخابات لم تعد شبه محسومة لصالح ترامب كما كان الحال قبل انسحاب بايدن.

ويعني ما سبق أننا الآن إزاء سباق مفتوح تحسمه عوامل عديدة، مثل القدرات الشخصية لكلا المرشحَين والتي ستحدد السقطات التي سيقع فيها أي منهما، وبالذات في المناظرة الرئاسية التي يُعْتَقَد أنها ستكون فرصة لهاريس لإظهار حيويتها بعد تحول متغير السن لصالحها، ومفاجآت السباق الانتخابي، كظهور حقائق أو تهم صادمة بالنسبة لأي من المرشحَين.. والله تعالى أعلم.

*أستاذ العلوم السياسية -جامعة القاهرة