وسط تباطؤ اقتصادي عالمي، وتوترات تجارية وجيوسياسية متزايدة، وتداعيات نزاعات وحروب عسكرية مستمرة، بدأت بالحرب الروسية الأوكرانية وقد لا تنتهي بالحرب الإسرائيلية في غزة وجنوب لبنان.. وسط كل هذا تبرز خطورة «هجرة الرساميل» التي تفتش عن «ملاذات آمنة».

وقد تفاعلت مع هذه التطورات السياسةُ الفرنسية، مع العلم أن بورصة باريس خسرت خلال أسبوع واحد نحو 258 مليار دولار من القيمة السوقية لأسهم الشركات، كما خسرت موقعها كأكبر سوق للأسهم في أوروبا، لتحل محلها بورصة لندن التي استفادت من استقبال بعض المستثمرين الفرنسيين.

وجاءت هجرة الرساميل الفرنسية، بعد خسارة حزب الرئيس إيمانويل ماكرون في انتخابات البرلمان الأوروبي، وإثر دعوته إلى انتخابات نيابية مبكرة بين 30 يونيو الجاري و7 يوليو المقبل، مما أثار قلق المستثمرين من احتمالية فوز الأحزاب اليمينية الأكثر تشدداً. وقد حدث ذلك خلافاً لرغبة ماكرون التي أعلنها في قمة «اختر فرنسا 2024»، التي انعقدت في مايو الماضي، لاستقطاب المشاريع والاستثمارات الكبيرة وبهدف جعل باريس مركزاً تجارياً كبيراً في أوروبا، مثل نيويورك ولندن، على نطاق عالمي. ومع الإخذ بالاعتبار الفرق البسيط بين القيمة الإجمالية للأسهم في فرنسا، والبالغة 3.13 تريليون دولار، وقيمة الأسهم في المملكة المتحدة والبالغة 3.18 تريليون دولار، فإن «التاج الأوروبي» الذي تحوّل من باريس إلى لندن ربما لا يستمر طويلا، خصوصاً أن المستثمرين يرون أيضاً بعض الأسباب التي تدعو إلى الحذر، إذ من المرجح أن تشكل الانتخابات البريطانية المرتقبة في 4 يوليو المقبل، أكبر عملية تغيير سياسي في البلاد منذ خروجها من الاتحاد الأوروبي، وستكون الحكومة الجديدة لديها مجال محدود، وستواجه تدقيقاً من قبل المراقبين على السندات السيادية والأسهم. مع العلم أن المملكة المتحدة تحتل حالياً المرتبةَ السادسة كأكبر سوق للأسهم. وفي هذا السياق، يلاحظ تناقص جاذبية المملكة لأصحاب الثروات، ويشير تقرير رسمي إلى هروب أكثر من 8 آلاف مليونير في العام الماضي. ووفق التقديرات المؤقتة الواردة في تقرير حديث لمستشاري الهجرة «هينلي آند بارتنرز»، فمن المرجّح أن يتجاوز عدد الأثرياء الذين يستعدون للمغادرة خلال العام الحالي 9 آلاف مليونير. أما بالنسبة للدولار، وهو أحد أهم الملاذات الآمنة، فإن المستثمرين في العالم ينتظرون باهتمام بالغ نتائجَ انتخابات الرئاسة الأميركية المرتقبة في نوفمبر المقبل، والتي تعكس مساراً حاسماً للمستقبل السياسي والاقتصادي للولايات المتحدة، مع التأكيد على قلقهم الشديد من استمرار ارتفاع حجم ديونها التي بلغت نحو 35 تريليون دولار. ويتوقع مكتب الموازنة في الكونغرس أن يتجاوز 56 تريليون دولار في عام 2034. ورغم أن العائد على سندات الخزينة يبدو مستقراً خلال الأسابيع الأخيرة، فإن سوق سندات الدين الأميركية لا يبدو أفضل من نظيره الأوروبي. وهناك من ينصح المستثمرين بشراء السندات الأوروبية أكثر من الأميركية. ويكفي أن يطالب المستثمرون الذين يشترون السندات الأميركية بعلاوة أخطار أكبر، للتدليل على تراجع الثقة في الاقتصاد، واحتمالات ارتفاع أسعار الفائدة ومعدلات التضخم. وهكذا يبقى «الذهب» أهم الملاذات الأكثر أماناً، لذا تخطط البنوك المركزية العالمية لزيادة احتياطاتها الخاصة من المعدن الأصفر. وقد حافظت البنوك في الأسواق الناشئة على موقفها الإيجابي تجاه مستقبل احتياطات الذهب، وانضمت إليها 57 في المئة من البنوك المركزية في الدول المتقدمة، ارتفاعاً من 38 في المئة العام الماضي.

*كاتب لبناني متخصص في القضايا الاقتصادية.