نهاية العملة الورقية
تدرس أكثر من 100 دولة في العالم - والتي تمثل 95% من مجمل الدخل العالمي - إصدار عملتها الرقمية من قبل بنوكها المركزية، وبحلول 2040 لن يكون هناك وجود يذكر للعملة الورقية ونهاية عصر الخصوصية المالية، حيث ستكون كل خطوة وعملية يقوم بها الفرد مسجلة وموثقة لدى البنوك المركزية، وستتمكن البنوك المركزية من تعطيل أي حساب رقمي في العالم لفرد أو مؤسسة أو الحجز على مدخراته الرقمية بكبسة زر واحدة.
واذا تتبعنا التحول البنكي في البنوك التقليدية، سنجد أن قرابة الـ 50% من أفرع البنوك البريطانية منذ سنة 2015 على سبيل المثال قد أغلقت أبوابها بسبب التوجه العالمي للعمليات المالية الرقمية، والبنوك بدورها في سباق مع الزمن للتحول الذكي الكلي لها كبنوك حتى في دول مثل المغرب ومصر، وهما الدولتان الأكثر بالتوالي على مستوى العالم في استخدام العملات الورقية النقدية، وتعتبر نسبة من لا يملكون حساباً بنكياً من الشعب المغربي تفوق 70% والمصري 60% وهي النسب الأعلى، كذلك وفي المقابل نجد أن أكثر من 80% من الشعب المغربي على سبيل المثال متاح لهم الولوج للإنترنت، وهي نسبة كبيرة تجعل الانتقال الرقمي حتى في الدولة الأكثر استخداماً للنقد في العالم أمراً قابلاً للتحقيق، وهو ما كان مخططاً له أن يحدث على مستوى كل دول العالم وسيحدث لا محالة.
يبدو لي أن ما يدور في العالم اليوم هو تمهيد لولادة العملات الرقمية المركزية، وهي مجرد مسألة وقت قبل أن تتحول إلى العملات الرسمية الوحيدة للدول ويتحول الدولار لأن يصبح دولاراً رقمياً، ولن يجد البنك المركزي الأميركي خياراً آخر غير أن يعلن عن ذلك، وبالتالي تصبح كل البنوك تحت قبضة البنك المركزي، وبالمثل في باقي دول العالم الأخرى التي تريد نهاية عصر هيمنة الدولار، وكسر موجة الصعود في العملات الرقمية غير الحكومية والتي تهدد مفهوم الدولة التقليدي، وإيجاد موضع قدم للحكومات في الأسواق المالية خارج قبضة الشركات والمحافظ المالية التي تسيطر على اقتصاد العالم، وتوجه الدول لما يجب عليها فعله اقتصادياً ومالياً لكونها من يتحكم في ثروات العالم بما في ذلك بعض البنوك المركزية، والتي تعد قطاعاً خاصاً على غرار البنك المركزي الفيدرالي الأميركي والذي تعود ملكيته إلى العوائل التي أسسته.
ومن جهة أخرى، عندما تسافر إلى دولة كالصين تجد أن المعاملات التجارية الورقية تكاد تكون اختفت والجميع يتعامل من خلال تطبيقات ذكية وعملات رقمية. واتفاقيات الصين التجارية في الآونة الأخيرة تصبّ على التبادل التجاري بالعملات المحلية، تمهيداً لعملة رقمية تكون الأقوى في ميزان المعاملات التجارية لأكثر من نصف سكان الكرة الأرضية، وستعمل الدول المنافسة لأميركا على إضعاف قوة الدولار الأميركي في العلاقات التجارية، مما قد يؤدي إلى تراجع النشاط التجاري والاستثمارات الأجنبية، وتراجع الطلب على الدولار الأميركي وهذا قد يؤثر على سعره وقوته في الأسواق العالمية، وهنا تأتي العملات الرقمية كملاذ أخير لقلب الطاولة على الخصوم قدر المستطاع، واللعب بورقة أن التغيّرات في قوة الدولار ستؤثر على الاقتصادات العالمية وتقود العالم لركود عالمي.
وفي الوقت نفسه ستقوم الصين وروسيا والهند وغيرها من الدول بتعزيز نظام نقدي دولي بديل للدولار الأميركي، مما سيقود إلى تقليل الطلب على الدولار الأميركي وتراجع قوته تدريجياً في المستقبل لكون التغييرات السريعة والكبرى ليست في مصلحة الاستقرار الاقتصادي العالمي، ولهذا سنرى في الفترة القادمة المزيد من الصراعات والنزاعات المصطنعة وكوارث غير مسبوقة في الكثير من الدول التي تتحدى الهيمنة الأميركية، وكوارث عالمية موجهة للعالم ليحتفظ الدولار الأميركي بمكانته كعملة احتياطية في المستقبل القريب والمتوسط القريب، وبالمقابل فالعملات المنافسة الفردية وضمن التكتلات ستكون معظهما افتراضية، وتكون قيمتها في كل دولة حسب احتياطي الذهب في بنوكها المركزية وسعر غرام الذهب في البورصة.
*كاتب وباحث إماراتي في شؤون التعايش السلمي وحوار الثقافات.